الجمعة 26 ديسمبر 2025 01:04 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

سماح عزام تكتب : عصر “المصائب السوداء” الرقمية

الكاتبة سماح عزام
الكاتبة سماح عزام

لم يعد الهاتف الذكي أداة مجردة للتواصل أو اللعب، بل أصبح الحارس الأول لعقول أطفالنا، والمدرّب الخفي لوعيهم، وصانع القرار الذي يوجّههم أكثر مما يفعل الآباء أو المعلمون. تيك توك، ريلز، وألعاب الفيديو ليست مجرد وسائط، بل عالم كامل يبتلع الوقت، ويشكل الشخصية، ويزرع القيم بلا مراقبة ولا حدود.
إن النظر إلى الشاشة على أنه مجرد ترفيه أو ملء فراغ، خطأ قاتل. كل مقطع قصير، كل تحدٍ، كل صوت مؤثر، وكل صورة خاطفة، يُعيد برمجة الدماغ الصغير، يسرق التركيز، ويغيّر إدراك الواقع. الطفل الذي كان يلعب تحت منزل مع أصحابه ،ويقرأ كتابًا، ويستمتع بالهدوء، صار يقف أمام شاشة لا تعرف الرحمة، تتحدث لغة اختصرت كل شيء إلى ثانيتين فقط: السرعة، الإثارة، الإدمان.
وليس مجرد محتوى ما يُشكّل خطورة، بل الإيقاع نفسه؛ الإيقاع الذي يزرع القلق، ويقهر الصبر، ويجعل كل لحظة من التأمل والتمعّن مملة أو مرفوضة. الطفل الذي لم يعد يحتمل كتابًا، درسًا، أو حتى الحديث مع والديه، يصبح أسيرًا للإشباع الفوري، وجاعزًا عن مواجهة الواقع بصبر وعقل. هنا تتجسد المصيبة: الأجيال القادمة تتعلم أن كل شيء سريع، وأن العمق عدو، وأن التفكير الطويل مضيعة للوقت.
ولا يمكننا إلقاء اللوم على الطفل وحده. الأسرة، المدرسة، والمجتمع كلّهم شريك في هذا الانهيار. انشغال الآباء عن متابعة الأبناء، ضغوط الحياة اليومية، ضغوط العمل والاقتصاد، جعلت من الشاشة “مربية” بلا وعي، بلا رقيب، وبلا قلب. والنتيجة: لغة مهشمة، قيم مشوشة، وعلاقات اجتماعية ضعيفة، وأجيال تعرف كل شيء عن العالم، إلا عن نفسها.
الأخطر، أن هذه المصيبة الرقمية صامتة. لا صوت يعلو، لا جرس إنذار يرن. لكنها تترك آثارها العميقة: أطفال أقل قدرة على التركيز، شباب بلا صبر، ومجتمع فاقد القدرة على الحوار الراقي. القيم تتراجع، الاحترام يتضاءل، والمواطن الجديد لا يعرف الفرق بين الحقيقة والوهم، بين الشهرة والزيف، بين الصديق والمعجب الافتراضي.
الحل؟ لا يبدأ بالمنع القسري أو الحظر التام، بل بالوعي والإشراف والحوار. يبدأ بإعادة الأسرة إلى مكانتها، المدرسة إلى دورها التربوي، والمجتمع المدني إلى مسؤوليته في مراقبة وتأطير التجربة الرقمية. يجب أن نعيد للكتاب صوته، للحديث مع الأبناء قيمته، وللإبداع الحقيقي مكانه. وأن نعلمهم أن الشاشات وسيلة، لا غاية، وأن الزمن الحقيقي للبناء والتعلم هو زمن الفكر والصبر والممارسة.
إننا أمام مرحلة حاسمة: إما أن نترك أبنائنا غرقى في المصيبة السوداء، أو نعيد إليهم القدرة على التفكير الحر، على الإبداع، وعلى التفاعل الإنساني الحقيقي. ما يحدث اليوم ليس مجرد مشكلة ترفيهية، بل قضية وعي وهوية وأمن إنساني. إن لم نتصدى لها بجدية، ستدفع الأجيال القادمة ثمن صمتنا.
ولذلك، على كل أب، وكل معلم، وكل مجتمع، أن يسأل نفسه: هل نحن حاضرون في حياة أطفالنا، أم تركناهم لقوة خوارزميات لا تعرف الرحمة؟
هل نحن نصنع عقولًا حرة، أم مجرد مستهلكين لشاشات لا تعرف شيئًا عن القيم ولا الإنسانية؟
الأمل موجود، لكنه يتطلب شجاعة: شجاعة الرقابة الواعية، الحوار المستمر، وصناعة بيئة رقمية متوازنة. حينها فقط، يمكننا أن نحول المصيبة السوداء إلى فرصة لإعادة الأطفال إلى عالم حقيقي، عميق، وجميل، حيث يكون التفكير واللعب والقراءة جزءًا من حياة كاملة، وليست مجرد ثوانٍ معدودة على شاشة باردة.

سماح عزام عصر “المصائب السوداء” الرقمية الجارديان المصرية