الجمعة 26 أبريل 2024 11:17 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

فنون وثقافة

(أنا...أنت) من مجموعه قصصية باسم ( لا مفر ) للأديبة مي علام

الأديبة مي علام
الأديبة مي علام

لم أولد شمساً، كي أشرق، أو زهرة كي أذبل.. يخيل إلى في بعض الأوقات أنني ولدت من رحم أمي قبيحاً ، عصبياً، حزيناً.. أرغب في التمرد وأعجز عن التفوه بكلمة لا، رغم أنها كلمة من حرفين فقط، لكن لساني يعجز نطقها، صرت مستسلما يائسا يبحث عن روحه الضائعة في ركام الحياة البائسة.

أحيانا يختار الناس شخصاً بعينه، يتفقون احتقاره .. تفضح أعينهم سخرية مكتومة تجاهه دون جريرة، يمقتونه كأنه قتل فلذات أكبادهم، صرت ألمح نظراتهم البغيضة من آن لآخر دون اكتراث، حاولت قهر الواقع الذي خلقوه لي، تمرت على الصورة الذهنية في عقلي بالتودد للآخرين دون فائدة..، عندما ألقى عليهم السلام، يصيبهم الصمم، أدركت بالفعل أنني وحيداً منبوذاً من الجميع بلا سبب.

عشت السنوات العشر الأولى من طفولتي، سعيدة، كان والدي لا يزال على قيد الحياة، قبل أن يخطفه الموت ويتركني وحيدة أصارع خيالات كئيبة لمستقبل غامض بغيض، تلقيت صفعات قاسية لم يتحملها جسدي الهزيل.. نعم ، كنت نحيلا.. غليظ القسمات، ملامح وجهي القاسية أخفت خلفها حنان ورقة طاغية. «»

تلقيت صفعات القدر واحدة تلو الأخرى صاغرة، فلم تمر سوى ستة أشهر على وفاة والدي حتى تزوجت أمي من رجل آخر، رغم أن أبى ترك ما يؤمن لنا حياة كريمة، ولم تكن في حاجة إلى تلك الزيجة، إلا أنها على ما يبدو كانت تمقتني دون مبرر، فلم أتذكر يوماً أنها احتضنتني مثل كل الأمهات اللاتي تحتفين بأطفالهن، لم أذكر أنها قبلتي يوما ما بل كانت نظراتها دوماً تحمل تساؤل غير مفهوم..؟!.

كنت أتخيل ما يدور في خلدها من أسئلة.. كيف حملت بهذا الأحمق القبيح، وعندما حانت لها الفرصة ، تخلصت منى على الفور وتركتني وحدة بمنزل جدتي التي أذاقتني شتى أنواع العذاب لدرجة جعلتني أتمنى الموت .. أتخيل سيارة تسير نحوي بسرعة جنونية لتصدمني وتنهي حياتي البائسة، يوقظني من خيالاتي صوتها الفظ وصراخها الحيواني.. حاولت التخلص من حياتي مرارا بالوقوف في منتصف الطريق عسى أن تدهسني إحدى السيارات فلم تكن لدي الشجاعة الكافية لأقتل نفسي منتحرا.

جدتي.. كانت بمثابة كابوس ثقيل في حياتي، لا يوجد مرض إلا وعانت منه، أصبحت مثلها تمامًا، وكأنها نقلت لجسدي جميع أمراضها، والداهية الكبرى، هي أنني اصبحت أسيرا لها، سجين في زنزانتها المعتمة، تتلذذ بسبي وتعذيبي كل دقيقة .. كان صوتها مقيتاً وهى تهتف باسمي: «بكر»، كانت تنعتني بالحقير العالة نذير الشؤم والنحس كما البومة، والغريب أنني كنت أجيبها طوعاً وكرها، وهى تتلذذ برؤيتي وأنا أحملها وأئن من وزنها الثقيل، اعتدت على أن أغير فراشها القذر، كانت تتبرز عليه بحجة أنها لا تستطيع الحراك.

-2-

كنت عبداً ذليلاً لها، أعد لها الطعام وأنظف لها الفراش، وأعطى لها أكثر من عشرون دواءًا في اليوم .

لا أستطيع النوم كالبشر ، أظل مستيقظاً في غرفتي على هذا الضوء الخافت ، والأفكار تنهش رأسي ، حتى أتى إلى......... ، يعرض على خدماته ....! ، التي سوف تريحني من عذابي.....! .

عندما جاء، ارتعدت فرائضي ، وهتفت بصوت مرتعب ، من أنت .....، ماذا تريد منى ....؟!.

أنا .....أنت.

أنا الذى أتبعك في كل خطواتك ، أنت فقط من يأمرني و أمتثل لأوامره ، أنا الشيء المحبب لديك ، الذى سيخلصك من هذه البغضاء التي تنغص عليك حياتك.

بكر ـ: كيف ستخلصني منها ، أنا لا أريد التخلص منها ، فهي جدتي ، وأنا أحبها.

ضحك في استهزاء شديد ....، تحبها ! يا لك من كاذب !.

أنت لا تستطيع خداعي ، هذه الكلمات تتشدق بها امام الأخرين ، ولكن أنا ........لا.

أنا أنت ، وإذا كنت أنت جبان ، تعجز عن اتخاذ القرار ، لكى تريح نفسك ، أنا قد مللت من هذا العذاب .

أنا أيضاً أتعذب معك ، ولقد سئمت، وقررت فعل شيء لكى أنعم بالراحة والسعادة.

بكر : من فضلك .....أنا لست أنت ، ابتعد عنى ، أنا لا أعرفك ، احذر أن تمس جدتي بسوء ، لن أرحمك.

أغلق الضوء الخافت ، وأحتضن الوسادة وهو يقرأ كل ما جاء في خاطره من آيات قرآنية ، وبالفعل شعر بمغادرته المكان.

أستيقظ بكر متأخراً ، نظر للساعة ، وجدها الحادية عشر ، كيف هذا .....؟!.

نام سبع ساعات متواصلة ، هذا لم يحدث أبداً طوال أثنى عشرة عاماً ، يبدو أن جدتي رفقت بحالي وقررت أن تريحني قليلاً ، ذهب للمطبخ مهرولاً ، لكى يعد لها الإفطار دون حتى أن بغسل وجهه.

وضع الإفطار على صفحة . وسار مسرعاً لغرفة جدته ، طرق الباب ، ولكن .....، لم يسمع صوت جدته، فأعاد المحاولة ، ولكن بلا طائل ، فأنتابه القلق ، قرر أن يدخل وليحدث ما يحدث.

ولكن ........!!!، وقعت منه صفحة الطعام على الأرض، ولم تحمله قدماه من هول ما رآه ، فأرتكن لجدار الغرفة ، يبكى وينتحب.

وبعد حوالى ساعة من البكاء ، نهض بصعوبة يتأمل جدته التي قد تناثرت دمائها على الفراش ، وفى جميع انحاء الغرفة، عيناها الباردتان المجمدتان تنظران إليه في مقت أرعبه.

فمد كفه ليتأكد من موتها ، وجد جسدها بارداً متصلباً، فأندفع مسرعاً لغرفته ، ولم يدرك كم بقى فيها إلا عندما حل الليل، وعندئذً ........، جاء إليه مرة أخرى ، والسعادة تغمر قسمات وجهه.

-3-

يساله بنبرة هادئة : ما رأيك ...؟ لقد فعلت ما كنت تجبن أن تفعله أنت.

أنا أشجع منك ، أنت سعيد أليس كذلك.....؟.

بكر ملتفتاً إليه بغضب : سعيد .......! .........، بماذا؟ ...! ، لقد قتلت جدتي ..! ، وأنا من سيذهب للسجن .

لقد أضعت حياتي.

لا.....لا لن تذهب للسجن ، هيا لتقم معي لكى ندفنها في الحديقة .

لا أحد سيسأل عنها ، فهي عجوز شمطاء، بغضاء.

هيا لتقم أنت بدورك ، أنا قمت بدوري ، وخلصتك منها.

بكر يهز رأسه في رعب: لا ... لا ، لن أفعل ذلك.

هي لم تمت بعد.

تنظر إلى نظرات نارية ، كأنها تتهمني بقتلها.

أبتعد عنى ......أنا أخاف منك أنت قاتل عديم الرحمة ، قتلت جدتي وأنا صرت وحيداً تماماً لم يعد لى أحد.

أنت أحمق جبان ، يبدو أنك أدمنت العذاب والشقاء ، وأحببت كونك عبداً ، وأصبحت تكره الحرية.

بكر : صه ، ولا تتفوه بكلمة أخرى ، أيها القاتل.

وأغلق الضوء ، فأختفى تماماً.

أستيقظ بكر وصار بخطوات بطيئة مرتعشة ، نحو غرفة جدته ليرى ماذا سيفعل ، هل يبلغ الشرطة ، أم ماذا....؟.

ولكن.... !! وجد الغرفة مرتبة، نظيفة ، لا أثر فيها لدماء أو لجثة جدته!.

أصابه الذهول ، هز رأسه ، وفرك عينيه ، وصفع نفسه العديد من المرات.

لكى يتأكد أنه لا يهذى ، ولكن بالفعل اختفت جثة جدته.....!.

و رغم استغرابه وقلقه إلا أنه شعر بالراحة ، فقد تخلص من جثتها ونظراتها المقيتة له.

فأندفع للمطبخ يعد الطعام ، ويتناوله بشهية مفتوحة ، على غير عادته.

أخذ حماماً دافئاً ، وقرر أن يبقى بالفراش وينعم بالنوم الذى حرم منه أعواماً .

وجاء الليل بغموضه وأسراره .

-4-

الليل ......، مطلب الشعراء ، وإلهام المفكرين ، ولكن هو أيضاً مرعى للمجرمين، وقاس على الفقراء وأبناء الشوارع الذين لا يجدون شيئاً يسترهم ، غير ستار الليل.

أراك سعيداً الأن : لقد خلصتك منها ، ودفنتها أنا ، فى الحديقة .

بكر : أأ ...أشكرك ولكن لا تكرر ما فعلته مرة أخرى.

لا أنكر سعادتي ، ولكن هي جدتي على العموم ، لا....أنا حزين من أجلها ....لا أنا سعيد!.

بالفعل سعيد ، لقد كانت عجوز شمطاء ، كريهة الرائحة، أنا ممتن لك كثيراً.

ضحك قائلاً : سعيد أم حزين ، لا فارق معي ، أنا أفعل ما يسعدني أنا، وهو ما سيسعدك أنت.

أنا ، أنت.

والأن حان دور الأخرى .

تحرك بكر فزعاً من فراشه، وهتف بنبرة استنكار .....أخرى من ؟......!

الأخرى يا بكر ، السبب الرئيسي وراء كل ما حدث لك.....!.

التي رمتك لهذه العجوز ، وأحبت نفسها ، ولم تحبك يوماً.

وجرت وراء سعادتها ، وتركتك لمصريك ، تعانى ما تعانيه.

هذه المرأة القذرة.

بكر بقلق : .....من تقصد؟.

أنت تعلم من أقصد.

بكر : محذراً إياه ......إياك أن تمسسها بسوء ، وإلا سوف أقتلك.... أنا هذه المرة ،.......

ولكن سمعه بكر ، يقهقه في نشوة ولذة، ويبدو أنه لا محال أن يستطيع أن يوقفه عن فعل ذلك.

فاطفأ النور ، فغادر وبكر يعلم تماماً ما سيلاقيه في الصباح......!.

أستيقظ بكر في الحادية عشر ، عندما نهض تعثرت قدمه بشيء ، فسقط على الأرض وتأوه ألماً ، والتفت ليرى ما الذى أسقطه.

فوجد جثة .......جثةّ!

تمعن النظر ، وصرخ في لوعة ، أمي ...أمي .

أفرغ جميع ما في معدته ، وجلس على الأرض ينظر في لوعة لوالدته الممزقة لأشلاء أمامه.

-5-

نعم ممزقة.

هذه المرة ، قدت قطعت رأسها ،وذراعيها ، وساقيها .

تنهد بصوت مسموع ، ثم ضحك .

لا أعرف يا أمي ، ولكن منظرك وأنت ممزقة يسعدني ..!، ولا أخفى عليك أنا سعيد لأراك بهذا الشكل!.

أشعر أن هذا ما تستحقيه لتركك لي.

كم أنت يا أنا ، عظيم وشجاع.

لقد ملئت نفسى بالسعادة .

أخيراً أستطيع أن أسير مرفوع الرأس.

لا يهمني أحداً.

الأن لن أصير عبداً ، أو أتحصر على ترك أمي لي.

أنا من سيدفن هذه المرأة عنك يا أنت.

والأن هيا لننظف المكان ، منك أيتها .......،أمي ! لا ......أنت لا تستحقين أن أنعتك بأمي أيتها .......

لا أعلم ، حتى الحيوانات لا تترك أبنائها.

ليكن لقبك ،...... لا شيء!.

حل الليل ، و هذه المرة ، كان الأمر مختلف .

فبكر ،كان يرتدى بزة أنيقة، وأعد الطعام الفاخر ووضعه على الطاولة ، منتظراً أنت.

وعلى ضوء الشموع التي أشعلها ، جاء أنت.

بكر في سعادة : كم اشتقت إليك يا أنت.

هيا لنحتفل سوياً، أنا ممتن لك و أريد أن أعبر لك عن إعجابي وشكري.

وأنا أيضاً اشتقت أليك ، ولكن..... أنا لا أفارقك ليلاً ونهاراً !

أنا منفذ لأوامرك فقط ، لا داعى للاحتفال ، أنا لم أقم بشيء.

أنت الذى اقترفت كل ذلك.... أنت من قتلت جدتك ووالدتك!.

-6-

بكر في استنكار : أنا؟......أنا؟.

أنا جبان ، حتى كلمة لا... ، لا استطيع التفوه بها .

أقتل .....!محال....! هذا ضرب من الجنون......!

أنت الذى قتلت لا مفر من مواجهتك الأن.

أفق.....!.

سأريك ، هيا تحرك معي لترى.

بكر في غضب: لماذا تصر على إفساد الحفل الذى أعددته لك؟.

أنا فقط أريدك أن تعرف ، أنك من قتلت ليس أنا.

هيا .

بكر فى سخرية : حسناً سأذهب معك لكى تريني يا مغفل!.

أمشى ، فمشى هو الأخر .

قف ، ......فوقف .

حرك ذراعك ،...... فتحرك هو الأخر.

تماماً ، ما يفعله بكر ، هو يفعله..!!!.

وصدم بكر .....! .

وتراءت في ذهنه الحقيقة كلها......!

فجلس على أقرب مقعد ، غير مصدق !.

أذن ، هو من قتل جدته وأمه!

والأن ، أرى أنك قد صدقتني، ......أعتقد أن دوري انتهى.

نهض بكر بخطوات مترنحة ، وأشعل الضوء وأمسك بالسكين.

هي ذاتها من قتل بها جدته وأمه.

ووقف أمام المرآه ، العتيقة ، القديمة.

وألقى بتحية السلام على أنت، وحرك السكين على رقبته بعنف.

-7-

ليسقط متشنجاً ، مدرجاً في دمائه، على ما أقترفه من جرائم ، دفعه الأخرون بقسوتهم ، وعدم رحمتهم له بارتكابها.

مؤمناً ، أنه لم يتعاطف معه أحد منذ أن كان طفلاً ، وحتى هذه اللحظة.

فهو قاتل.....قاتل أمه ، .....وجدته.

أستمرت الدماء مندفعة ، حتى توقفت أنفاسه تماماً ، وأختفى أنت ايضا......!ً

انا ....أنت ، ريثما توجد أنا أوجد ، أنا أتبعك دوماً لا أفارقك .

لا مفر ، من مواجهة آثامك ، حتى بقتل النفس.

تمت،،،،

مي علام

78ea4ecd436c46bb3fef1065ec8d0259.jpg