الإثنين 6 مايو 2024 08:39 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

[الكاتب الصحفي، إسماعيل أبو الهيثم يكتب : العواطف والأحاسيس المثلجة !!

[الكاتب الصحفي، إسماعيل أبو الهيثم
[الكاتب الصحفي، إسماعيل أبو الهيثم

المتصفح لمنصات التواصل الاجتماعي يجدها قامت بتوفير اعداد وكميات ضخمة من الرسائل والبوستات الإلكترونية الجاهزة التي تحمل صيغ تعبيرية لاستخدامها في جل المعايدات والتغريدات، الفكرة لا بأس بها ، إذا ما كانت لمساعدة لذوي الثقافات الأقل من المتوسط ، أو عديموا الثقافة ، أما أن يعيش جل المجتمع بمختلف شرائحه عالة علي هذا البوستات في حراكهم الفضائي، حيث تلاحظ أن لغة الغالبية علي الميديا الإعلامية بمفردات غير نابعة من نفوسهم ، !! وهذا لعمري ، سيساعد ولا شك في شل تفكير المجتمع في كيفية التعبير عن مشاعره ، كل حسب لغته وثقافته .!!

قد يعترض البعض قائلا : وما العيب في توفير كمية لا بأس بها من المصطلحات والبوستات الجاهزة لاستخدامها من قبل أناس تقف ثقافتهم حائلا عن حسن التعبير عن مكنون المشاعر ؟.

الحقيقة أن تدجيج الميديا بملايين البوستات الجاهزة للاستخدام في كل نواحي المناسبات ، أضر بالذوق العام ، واصاب الروحانيات في مقتل علي حساب الماديات ، لاسيما وأن القوالب الجاهزة من الكلمات في الغالب الأعم تكون منزوعة الصدق، ولربما تكون غير موجودة من الأصل !!
.
ولا شك في أن هذه التقنيات ساهمت في محاربة الروحيات لحساب الحسيات والماديات. فقللت من الإبداع ، وأوجدت نزعة “مادية” تجذب الجميع إلى الأرض فتصبلهم بلوثة تقعدهم عن الخيال الخصب والمعاناة التي تولد المشاعر الخلاقة.

دعونا ننظر في هذه العجالة إلى بعض الوسائل التي أصبحت جزءًا من ضرورات العصر الذي نعيش فيه بيد أن لها تأثيرها السلبي على ” إنتاج” الأدب وخيال الأدباء وطريقة تعاطي المحبين.
الشبكة العنكبوتية.. هذه الخدمة التي لا غنى عنها في هذا العصر ، فهي توفر لك كل ما تحتاجه من كلمات جاهزة تخرج من الأصابع وليست من الألسنة ، بحيث تستدعيها عن طريق تحريك محركات البحث ، وليس عن طريق استداع المعاني ونقل الشعور .

أستطيع أن أقول : أن الكثير من كتاب عصر الإتصالات ، لم يكتبوا قطع مؤثرة يتحدثون فيها عن مشاعر صادقة تنبع من القلب ، وتحرك فؤاد المتلقي ، بل هي نصوص مركبة من كلمات ترسل لهم جاهزة ( تيك اوي ) حتي وإن كانت جميلة المنظر ، ولكنها منزوعة الصدق والإحساس !!

لعمري لقد أصيب الأدب يوم تم اكتشاف تلك الشبكة ، وليس العكس كما يظن البعض !!
كان المحب قبل اكتشافها إذا فارق محبوبته لا يكاد يعرف عنها أي خبر. فلا يدري أفي الأحياء هي أم في الأموات؟ أمحافظة على العهد أم أنها أصغت لحديث الوشاة؟ فتتدفق مشاعره بالشعر الرقيق المعبر عن الشوق والخوف والألم والأمل وينصرف الشاعر إلى القمر يسائله هل رأى المحبوبة أو أظل أرضا تقيم فيها؟ ويتحسس النسيم العليل القادم من جهتها عله يشم فيه عبيرها وعطر روابي تسكنها !!
فاليل والنجوم والكواكب والبدر كلها كانت تشارك في عملية “اتصال” بين الشاعر ومحبوبته: فرسوله الليلة المقمرة ، أو الليلة التي بعدها “نسيم الصبا”. أما وقد اتكأ واتكل علي هذا الجهاز البليد المسمى ” بالهاتف” يستدعي منه الكلمات ، ويستلف منه المفردات ، لدرجة أن أصبح الشاعر مبتورا عن محيط الطبيعة من حوله، يتعامل مع مشاعره بطريقة آلية مبتورة عن الطبيعة مما أفقده متعة مشاركة الطبيعة كلها من حوله في التواصل بينه وبين محبوبته .
اسمحوا لي أن أقول : بأن العصر الذي نعيش فيه يقتل الإبداع والروح، ولا يسمح لأهله أن يخاطبوا أنفسهم أو ينفردوا بها ، وأزعم _ رغم أن الزعم قد يكون مطية الكذب _ بأن الرسائل الإلكترونية المعدة سلفا لكل المناسبات ، قد اجهضت على الخيال وساهمت في “تثليج” وسائل الاتصال .

فنحن نعلم بأن المحبين في تاريخ الأدب العربي كانوا يفضلون المراسلة في بعض الأحيان على التحدث مباشرة إلى المحبوب ، لأنهم يرون فيها نوعا من " الاتصال” المختلف الذي لابد منه ، والذي يشبع جوانب من الروح لا يشبعها غيره .
انظروا إلي ما يقوله الإمام العلامة إبن حزم رحمه الله في كتابه الرائع “طوق الحمامة” في باب المراسلة : ” ولعهدي ببعض أهل المحبة ممن كان يدري ما يقول _ وهذا لعمري شيء مهم للغاية في عالم المراسلة _ ، فقد كان يحسن الوصف ، ويعبر عن ما في ضميره بلسانه عبارة جيدة ، ويجيد النظر ويدقق في الحقائق ، لا يدع المراسلة حتي وهو قريب الدار داني المزار .
.
ورغم أن إرسال الرسالة في الماضي كانت محملة بالمشقة ، مراقبة بالأعين ، إذ كان ببذل لها عظيم الجهد ، وتتكبد لها صنوف المشقة . إلا أن هذا لا يفقدها لذتها.
اليوم أصبحنا نرسل الرسالة إلى المحبوب بطريقة ” آلية” تغيب عنها البصمة الخاصة و تنقصها الحياة . ونرضي بها بدلا من الذهاب الي الأحباب ، أو حتي الإتصال ، تجنباً لتحمل مشقات ونفقات .

لننظر إلى ما يقوله إبن حزم عن شكل الرسائل التي ينبغي أن يتبادلها المحبون ، قال : " وينبغي أن يكون شكل الكتاب ألطف الأشكال، وجنسه أملح الأجناس، ولعمري إن الكتاب للسان في بعض الأحايين، إما لحصر في الإنسان، أو إما لحياء . حتى إنه لوصول الكتاب إلى المحبوب وعلم المحب أنه قد وقع بيده ، فإن لها للذة يجدها المحب عجيبة تقوم مقام الرؤية، وإن لرد الجواب والنظر إليه سرورا يعدل اللقاء ، ولهذا ترى العاشق يضع الكتاب على عينه وقلبه ويعانقه .
إن الطريقة التي وصف بها ابن حزم طريقة تسلم المحب للرسالة من عناق للكتاب ووضع له على القلب، تعبر تعبيرا دقيقا عن المشاكل التي أوقعتنا فيها الرسائل الإلكترونية. فالرسالة الإليكترونية ليست ” شيئا” ملموسا، بل إن المحب سيطلع عليها داخل (آلة تزيغ البصر) ولا يمكن له أن يلمسها، بخلاف الرسائل المكتوبة فهي بحق (جزء ) من المرسل، عليها وضع كفه ولمسها ولامس القلم الذي كتبها به، وكتبها بخطه الخاص الذي يميزه المحبوب، وقد يكون المحب هو من جهز حبرها ، لذلك سيكون من المفهوم أن يضعها الآخر على عينيه ويقبلها لأنها جزء من محبوبه. أما الإيميل فمبتوت لا علاقة له بمرسله، فالأجهزة المعاصرة ” معقمة” ضد الحب والشعور ، ولهذا صنعت ، لسلب أهم ميزة تميزنا نحن العرب أرباب المشاعر ، وأهل العواطف !!

ولكي تلاحظوا الفرق بين مشاعرنا ومشاعر من سبقونا دعونا ننظر إلى أسلوب من أسالب التعبير عن الحب من خلال المراسلة ، يذكرا إبن حزم أن المحبين كانوا يعبرون من خلالها عن مدى شوقهم وتعلقهم بمحبوبهم فقد كانوا يسقون الحبر بالدمع، على أن يرد المبعوث إليه بحبر سقاه بريقه مثلا ، مما يحول الرسالة المستلمة إلى قطعة من المحبوب. يقول إبن حزم: “وأما سقي الحبر بالدمع فأعرف من كان يفعل ذلك ويقارضه محبوبه بسقي الحبر بالريق.
ثم يضيف متحدثا عن الكتابة بدم المحب : ( ولقد رأيت كتاب المحب إلى محبوبه وقد قطع في يده بسكين له فسال الدم واستمد منه وكتب به الكتاب .

الخلاصة :
لا شك في أن الحضارة المعاصرة بتقنياتها (السهلة ) السريعة تمكننا من قطع المسافات لكنها تحد من هامش العطفة والحب والحنية عندنا . تسرق منا أعز ما نملك وتقايضنا ببديل "سريع " لكنه لا يمتلك " أصالة " القديم ولا حيويته ، رحم الله إبن حزم ، فلو عاش حتى وصل إلى هذ العصر الآلي لندب الأحبة وبكى على الألفة والإلف وتأسف على مصير الحب ووسائل التعبير عنه في هذا العصر المتغول الذي لا يعبر أهله إلا بالأمور الماديية الخالية من المشاعر والمنزوعة من الإحساس.

خلاصة الخلاصة :

إنني أدعو إلى التمرد علي قبول المعايدات الالكترونية في كل الأعياد والمناسبات ، لكونها عملة مزيفة غير قابلة للتداول في عالم الحقيقة وصدق المشاعر ، لأنها مفردات مثلجة مركونة في ثلاجات الضحك علي الأحباب ، يستدعيها المدعي ليخفي بها فقره وعجزه العاطفي وجفاء قلبه . ولو كان صادقاً فيما يقول ويكتب ، لكتبها بخط يده وذهب بها إلي البريد وحمله إياها لتوصيلها إلي من يحب .