الكاتب الصحفي إسماعيل أبو الهيثم يكتب : أعترف بالهزيمة ، فلا طلت بلح القرية ولا عنب المدينة !!
من بين ما كنت أفتخر به في جلساتي في الفضاء الرياضي ، أثناء حديثي مع لاعبي كرة القدم الدوليين ، أني أعيش في قرية ، وأعدد لهم مزايا العيش في القري ، وأركز علي أخلاق القرويين والأصول الحاكمة والضابطة لتصرفاتهم .
وحينما يضيق صدر أحد السامعين بحديثي ، فيلفت نظري إلي أهمية المدينة وتوفر الخدمات فيها ، ومع ذلك كنت أجنح إلي ترجيح كفة القرية عندي لما كنت أري فيها من مميزات اجتماعية قلما تتوفر في المدينة ، من أمثال الحميمية الإجتماعية التي تربط الأسر ببعضها ، فضلا علي الأسمنت الإنساني الذي يربط كل أفراد الريف ببعضهم البعض ، حتي بينهم وبين سائر الحيوانات والطيور والأشجار .
وبعد فترة لا تزيد علي ربع قرن من تلك المبارزة الإجتماعية ، أسلم وأعترفت بهزيمتي في تصوري السابق بضرورة العيش في القرية مفضلا إيها علي المدينة ، والتي كان في مقدوري العيش فيها بسهولة ويسر .
وذلك بعد أن تحولت القرية إلي حي ( شعبي ) من أحياء المدينة ، فالأسر تعيش حالة عزلة تامة . فلم تعد الزيارات والمسامرات موجودة ، واختفت الأخلاق الريفية تماماً ، فحل محلها الأخلاق الفيسبوكية بمفرداتها الخادشة ومنطوقها المايع !!
الشباب يمشي في الشوارع بشورت قصير ، أصواتها مرتفعة تصل أن تكون زاعقة ناعقة ، لايعرفون الدور ولا أصحابها ، بعد كنا نعرف الرضع والرتع !!؟
كانت الأسر فيما مضي من سالف الأيام تقوم بصيانة الأخلاق وحراستها وتنميتها؛ وكانت درجات سلم التفاضل بين العائلات هي المبادئ السامية ، والأخلاق العظيمة، والسجايا الكريمة ؛ فكانت العائلات تستحي أن يكون بين أفرادها من يطيل شعره أو يعلو صوته أو يدخن السجائر .
لا جرم أن يكون هذا هو السمت الغالب الآن من الجميع بموافقة كبراء الأسر وقادتها .
حقا فإن ما يثير القلق العميق، اليوم، على حاضر ومستقيل مجتمعنا الريفي ، حالة التردي القيمي، غير المسبوقة، التي تجتاحه من أقطاره ، جالبة أعاصير وعواصف التصحر الأخلاقي؛ مثيرة مخاوف رعاة منظومة المبادئ والقيم المرعية شرعا وطبعا ، ومنذرة بنهاية حلم جميل، راود المربين الأوائل، ومن واكبهم واتبع سبيلهم من الأجيال؛ حلم تنشئة الأولاد والشباب علي منظومة قيمية لا تجرفهم إلي مستنقع التقليد الأعمى ، والخروج علي المورثات التي كانت تميز المجتمع الريفي عن غيره من المجتمعات .
مما يعزز ذلك القلق كم التصرفات والممارسات الموجودة في الشارع الريفي ، حلقات شعر ولا أغرب ، شباب بضفاير ، تسكع مريب ومخيف ، هرج ومرج يغلفان كافة التصرفات ، إلا ما ندر !؟
يؤسفني أن أعترف بأن المجتمع الريفي أصبح غير منسجم مع تضاريسه - سواء الجغرافية أو السلوكية _ ناقم علي الأوضاع ، الشباب يجبروا الآباء علي بيع الأرض لشراء توكتوك يوفر مأتي جنيه يوميا ينفقوا علي أمور مضرة بالصحة والمجتمع ، أو يفتتح كافيه _ التصريف العربي للقهوة _ فلا جرم أن تتحول الحياة الريفية إلى ميدان سباق وبهرج وزيف ومناطحة مالية بغيضة ضاعت أمامها القيم والسلوكيات التي كنا نتغني بهما بالأمس.
بتلك الارتكاسات السلوكية ، بات هذا المجتمع _ ساكن الريف _ عصيا ، حد اليأس، على أي اندماج قيمي ، فقد تعلم من عشوائيته معايشة كل الأوضاع، وتهجين كل طارئ جديد ، وإعادة صياغته في بوتقة الغيبوبه التصورية، فاكتسب مناعة ضد المورثات الأخلاقية التي كانت تحكم حياة آبائنا وأجدادنا !!
لقد تحمل الآباء والأجداد ( رحمهم الله ) العديد من الصعاب والتحديات من أجل توفير مايضمن لأولادهم عيشة كريمة من بعدهم ، حتي ألفوا التعب والشقا في حلهم وترحالهم من أجل تهيئة الأجواء أمام الأجيال القادمة لمواجهة الحياة ، وبقدر إلفهم هذا ، ألف الأبناء والأحفاد سيل الاستلاب الخلقي المتدفق والمتجدد ، فالتبست في وعيهم المغشوش ، ومسلكياتهم العشوائية ، مفاهيم الرجولة والعيب والحرام !؟
ومما يعطي لتلك الحالة المنفلتة من كل قيد ، بعدها ومداها ، أن ثقافة ساكني الريف الحالية ، تخاصم تلك الثقافة التي كان عليها جيل الآباء والأجداد تماما . بل يتعدي الأمر أنهم وصفو تلك الثقافة الفائتة بأنها سبب من أسباب التأخر ، لأنها ركزت بالدرجة الأولى علي الأخلاق ولم تركز علي السباق المادي الحاكم الحالي .
لدرجة أن أحدهم جادلني في حوار شهده البعض ، بأن دائرة ثقافة الآباء كنت ضيقة للغاية ، لأنها ركزت علي أمور محددة من لوازم الدين والمروءة ، والكف عن أمور محددة من المحظورات شرعا ، أو المنافيات لعادات ترجع لتفاصيل حياة المجتمعات المنقرضة للأجداد الأقدمين؛ ومن ثم عانينا الأمرين في حياتنا ، لاسيما أن عوزنا الحالي غير مرتبط في الغالب بما لا عهد للآباء به من المفردات والمركبات المادية والمعنوية ، والسياسية والإدارية والحقوقية والتجارية والصناعية والمالية والاجتماعية والخدمية بكل أبعادها المستحدثة ، وقس ما لم نقل على ما قلنا !!؟
فلا تلومونا علي التفريط في الإرث الاجتماعي الأخلاقي ، في ظل واقع استباح كل عرف أو قانون أو دين، وأقام قواعد حياته على الفوضى والاستهتار بكل نظام، أرضي أو سماوي؛ وكانت حصيلة تلك الخلطة ، حالة أخلاقية كريهة، تقدم الدليل القاطع ، لمن هو بحاجة إليه ، على خيبة "السياسات" التربوية عموما ، وخاصة تلك المتعلقة منها بأبعاد السلوك العام .
فلقد فشلت تلك السياسات، فشلا ذريعا في الوصول إلى غاياتها وأهدافها المرسومة؛ هذا إن صح أن لسياساتنا التربوية غايات مرسومة ، أصلا !!؟
وهكذا صنع منا العيش الحالي في القرية التلاقي على غير موعد، بين ماضينا القروي الذي كنا نعشقه ، حيث الجلوس مع الكبار ، واكتساب خبرات ومعارف لا توجد في الكتب ، اكسبت الجميع منا قدرة علي المضي قدما مع متطلبات الحياة ، فكان الشاب أو حتي الطفل إذا تزوج أدار بيته بمهارة فائقة ، نتج عنها تدني أرقام الطلاق إلي أقل معدلاتها بين شعوب العالم ، وبين حاضرنا القروي الحالي ، الذي يضم أجناس ما ألفناها في زماننا الفائت ، حيث أنتج فينا خليطا غير متجانس من المسلكيات الهجينة والتي أفقدت الجنس القروي ، هيبته التي كانت تميزه ، ولقد جعلنا ذلك كله نفتقد الكثير من مزايا المواطن الصالح، والقرية الفاضلة ، والكثير من قيم الرجولة.
وبعد ، فلابد من الإعتراف أنني أخطأت في تقديري للعيش في القرية مفضلا العيش فيها عن المدينة ، فاضل الطرف عن الكثير من المنغصات الاجتماعية التي تحكم العيش في القري ، بالقياس بحجم وعمق وكنه التمتع بأجواء الرجولة الغالبة علي تصرفات حتي النساء في القري ، أما وأن الحال قد تغير وتبدل ، وتلاشت المميزات تماما ، واختفت الحميميات ، ولم تبق إلا المنغصات ، وأصبح لسان حالنا : أننا لا طلنا بلح القرية ، ولاعنب المدينة !!؟












نزاع على الأرض يتحول إلى اعتداء بالعصي.. الداخلية تضبط الأطراف بالشرقية
مصرع 4 أشخاص صعقا بالكهرباء في مزرعة بقنا
مصرع وإصابة 16 شخصا في حادث تصادم 3 سيارات بطريق الإسماعيلية الصحراوي
حريق يلتهم مخزن مواد غذائية غرب الإسكندرية.. والأمن يُرجح شبهة جنائية
توقيع اتفاقية مصرية إيطالية لإنتاج الغاز الحيوي ودعم الطاقة النظيفة
اسعار الذهب اليوم خارج مصر
أسعار الدولار أمام الجنيه اليوم الاثنين في مصر
أسعار الذهب في مصر اليوم الأحد 19 أكتوبر 2025