السبت 27 يوليو 2024 08:46 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

فنون وثقافة

د.كمال يونس يكتب : ساعة زمن في المحروسة

دكتور كمال يونس
دكتور كمال يونس

بعد صلاة الفجر غفا قليلا ليستيقظ على جرس الباب،قام من فراشه ، فتح الباب،فوجيء باثنين واقفين سأله أحدهما ،حضرتك فلان ،نعم،عندك حكم بغرامة ،فلتأت معنا للقسم ، ستعود لتفطر في منزلك ،كلها ساعة زمن ،دعاهما للدخول رفضا سننتظرك بالباب، بينما يرتدي ملابسه أخبر زوجته ،قلقت جدا ، طمأنها في عجالة كلها ساعة زمن ،اصطحب هاتفه ( التاب) المحمول ، ركب معهم السيارة ، صعدوا به للدور الثاني ،غرفة فيها مجموعة من الناس قبض عليهم لأسباب متنوعة ,حاول الاتصال بالمحامين لم يجبه أحد ، أخذ الأمين هاتفه المحمول ،يمر الوقت بطيئا ،سألوه بعض الأسئلة يفرغون إجابته في أوراقهم، أذن للظهر ، مايزال محتجزا مع الآخرين ، اقتادوه لغرفة الحجز ، طالع وجوه من حوله ، ملامحهم خالية من ملامح المجرمين الخشنة ، سألوه ما تهمته ، طبيب أديب كل ذنبه مداخلة تليفونية بأحد البرامج التليفزيونية ، مطالبا بالتحقيق فيما ورد بالحلقة عن الفساد وتزوير الأبحاث العلمية بأحد الجامعات ، وكان ممن تداخلوا بالحلقة نواب برلمان،و أساتذة بنفس الجامعة ،ووكيل لجنة التعليم والبحث العلمي بالبرلمان ، خلصوا فيه إلى تزوير الأبحاث العلمية ،في تقرير مفصل للجنة تقصي حقائق، مشكلة من نواب أساتذة بالجامعات ، تعجبوا لأن الأجهزة المذكور استخدامها في الأبحاث لا توجد بسجلات الأجهزة المتوافرة بتلك الجامعة ، وبناء عليه طلبوا بعزل رئيس الجامعة لفساده ،وتستره على الفاسدين ،وترقيتهم لأعلى المناصب، والتنكيل بالمطالبين بالإصلاح ، ووصفوا تقرير المجلس الأعلى للجامعات الذي انتهى إلى صحة الأبحاث وعدم تلفيقها بأنه قد أعد على سبيل المجاملة ، تقرير وقعه النائب رئيس اللجنة وهو أستاذ بنفس الجامعة ، ورفعوا التقرير لرئيس البرلمان ووزير التعليم العالي ولم يحركا ساكنا ، فقد كانا أصدقاء لرئيس تلك الجامعة ،الذي قدم شكوى للنيابة في الأديب الطبيب ،وقد اصطحب محاميين يعملان تحت إمرته ، مرفقا فيديو للحلقة ، وأتى تقرير ضابط الرقابة الإدارية مؤيدا لصحة الأبحاث، وأحالته النيابة لمحكمة الجنايات بتهمة سب وقذف ،وحكم عليه غيابيا بغرامة خمسة عشر ألف جنيه، وكيل النائب العام الشاب أثناء التحقيق كان يبدو مقتنعا ببراءته ،ولكنه كان قلقا يتصل برئيس النيابة أثناء التحقيق،وتم إرسال المحضر لمكتب النائب العام ،ولم يستطع المحامون السؤال عما تم في المحضر حتى تم القبض فجأة واقتياده للحجز،نظر حوله فوجد من بين المحجوزين أستاذا جامعيا ، اقتادوه لتنفيذ حكم بالنفقة لمطلقته، مهندس مدني طالب بحقه وأنصفه القضاء فدبروا له قضية يواجه حكما بالحبس بسببها، أستاذ بكلية الشريعة ،إمام مسجد ، دكتور مدرس بقسم الباثولجيا (علم الأمراض) ،مهندس زراعي لايعرفون بعضهم ، لكنهم متهمون بالانضمام لجماعة محظورة ، ضحك ساخرا قائلا بصوت عال سمعه الجميع،يعني تساوينا جميعا من مع الدولة ومن ضدها ،المحارب للفساد،والمتهم بالإفساد.

محاولات كبيرة قام به أهله وذويه ومعارفهم من الضباط لخروجه من القسم ودفع الغرامة ، وافق الضابط في باديء الأمر ،إلا أنه أصر على أن يبيت بالقسم ليعرض على النيابة بالغد، سمعها من أحد الأمناء التوصية عليه جامدة قوي.

ناداه أحد أمناء الشرطة أعطاه كيس به أطعمة مغلفة ،ما إن وضعها بجانبه إلا وأتى شاب صغير مهندس زراعي محتجز ليفتح الكيس، يلتهم مافيه من شدة جوعه ،نهره رفاق غرفة الحجر، إلا أنه ربت على كتف الشاب بالهنا والشفا ،ربنا يفكها علينا جميعا ،أذن لصلاة الفجر صلى الجميع يؤمهم إمام المسجد المحتجز معهم ،والمتهم بالانضمام لجماعة محظورة، لم يغمض له جفن حتى نادوا على اسمه ،واصطحبوه خارج غرفة الحجز ،وضعوا القيد الحديدي في أحد يديه ،والآخر في يد أحد المحتجزين،اصطحبوهم لسيارة الترحيلات ،وكل منهم أصبح مقيد اليدين بمفرده،وصلوا لمقر مجمع المحاكم ،أدخلوهم إلى بدروم كبير متسع ،اقتادوهم لزنزانة ذات أسوار حديدية تفوح من أرضيتها روائح نتنة لاتطاق،نادوا عليه اصطحبوه للعرض على النيابة قابل ابنه ، وابن شقيقته ،وكست الدموع عيونهم ،طأطأ رأسه من الخجل إذ رآه في هذا الموقف،انصرفا يكملا الإجراءات.

بكى بصوت عال،ربت على كتفه أحد الضباط ،إيه اللي جابك،حكى له حكايته ،فقال له لاتبك ،أنت دافعت عما تراه حقا ،ليس هناك ماتخجل منه.

دفع ابنه الغرامة الخمسة عشر ألفا من الجنيهات التي قاربت على الضعف،لزوم التسهيل ،وإلا السيستم واقع ،الخزينة قفلت ،وغيره وغيره،وإكراميات أو إذعانيات للأمناء ، وأجر المحامي ،اصطحبه الأمناء لغرفة كاتب النيابة وقد وقع على إقرار بعدم عمل أي معارضة للحكم ، وأمرت النيابة بالإفراج عنه من القسم مالم يكون محبوسا أو مطلوبا لقضايا أخرى،عادوا به للقسم قبيل المغرب،في انتظار ضابط المباحث للإفراج عنه،وبالفعل صعدوا للغرفة الملحقة بالمباحث ،أتى أمين شرطة ،فحص الكومبيوتر ،لم يجد أي شيء،اقتادوهم لضابط المباحث ،طلب من ضابط المباحث هاتفه المحمول ،(التاب)،أشار الضابط إلى كومة من الموبايلات ليس من بينها الخاص به ،نظر فوجد مجموعة من الموبايلات على مكتب الضابط ،فسأله هل يمكن أن يكون من بين هؤلاء ،فبادره بلطمة على وجهه،صرخ فيه ،عيب عليك ،هو أنت فاكرني صايع ،خدوه من هنا اسكت ولا هأحبسك أسبوع مش هأخليك تشوف الشارع،غادر الغرفة مع أحد الأمناء ،وبعد فترة ذهب للضابط ،حضرتك محتجزني ليه ،الغرامة ودفعتها ،وكل اللي أنا طالبت بيه التاب بتاعي ،يللا امشي غور ،وتعالى بكرا لضابط المباحث،نزل متجها إلى الطابق السفلي ،وبينما يوقع على بعض الأوراق سأله أحدهم ،هل لديك شيء في الأمانات ،الحزام ،وبنطلوني بيقع مني زي ما أنت شايف ،ياعم اتكل على الله ،كويس إنها جت في الحزام،بينما هو متجه للخروج من القسم وجد المحامي الذي كان بصحبة ابنه ،حكى له ماحدث ،هو الظابط ده كده عنيف ،وبينقلوه من مكان لمكان ، على فكرة ممكن ماكنتش تدفع الغرامة وتعارض ، ماعملتش كده ليه ،ده كان طلب ابنك مني ،وتركني وسار في طريقه.

على باب القسم كان زوجته وابنه في انتظاره ،ركب معهم السيارة دون أن ينطق بكلمة واحدة ،مقهورا ،متحسرا،محرجا من ابنه ،زوجته ،زوجة ابنه الآخر ، دخل ليستحم ،رافضا الأكل ،الكلام ،أغلق باب غرفته ،بكى كثيرا.

لم يستطع الاتصال بمعارفه من ضباط الشرطة السابقين ،توجه للقسم عدة مرات صباحا ومساء طلب مقابلة رئيس المباحث ، وتكررت الردود، في تشريفة ،في مأمورية ،عنده كورونا،حتى استفسر منه أحد أفراد الشرطة عن سبب طلبه لمقابلة رئيس المباحث فأخبره ،سأله معاك وصل ،وصل إيه إنك سلمت التاب،وصل مين اللي هيدهوني،خلاص عوضك على الله .

لم تفلح محاولة أحد معارفه شقيق لضابط كبير ، وقد أرسله إلى ضابط بالفرقة بالقسم بجوار غرفة المباحث ، وللأسف لم تفلح محاولاته في استرداد التاب الخاص به .

مستخدما اللاب توب اشتكي في المواقع المخصة ،بالفعل لم يجد أي أثر لشكوته على المواقع الاليكترونية ، لرئيس الجمهورية ، النائب العام،وزير الداخلية ، حتى الصحفيين أصحاب البرامج المفترض أنهم كبار أبدوا تعاطفا ،لم يطلب منهم سوى وصول صوته لوزير الداخلية معه ،وتخلى عنه الجميع في نذالة مفرطة، وحذروه من الشكوى لمباحث الاتصالات لئلا تلفق له أي تهم بمعرفة الضابط إياه .

اتصل بمحام صديق ،عشرة عمر،جار،محام بارع ، تدارس المحامي معه كافة الوقائع ،رأي من صور الأوراق المرفقة براءة موكله،توجه لرئيس النيابة يطالب بالاستئناف وإلغاء إقرار موكله بعدم إجراء معارضة للحكم ، وخاصة أنه لم تمر عليه أكثر من عشرة أيام، المدة القانونية للإلغاء،أعد ملفا كاملا مع مذكرة دفاع تتناول نفي وقوع جريمة السب والقذف،ووافق النائب وكيل لجنة التعليم والبحث العلمي مصدرة التوصية بالعزل ،وتقرير تقصي الحقائق الذي ينفي إجراء تلك الأبحاث،بل يصف تقرير لجنة المجلس الأعلى للجامعات بأنه أعد على سبيل المجاملة ،وتحددت جلسة الاستئناف ،نظرت المحكمة القضية ،ولم تسمع الشاهد النائب وكيل لجنة التعليم الذي كان وكيا للجنة التعليم والبحث العلمي ، فلقد رسخ في يقينها وعقيدتها أن ليس هناك جريمة قد ارتكبت ،بعد مراجعة مداخلته التليفونية بالحلقة ،وأنه لم يفعل سوى طلب التحقيق في هذه القضية الخطيرة،وطرحت شهادة الشهود ،وتقرير ضابط الرقابة الإدارية ،وحتى إحالة المتهم للمحاكمة لم تكن على حيثيات يقينة ،وحكمت المحكمة ببراءته ،واعتزل الكتابة في السياسة ، طلقها ثلاثا ،طلقة بائنة ،ومازال يتحسس في قهر خده الذي صفعه عليه الضابط ،ولم يسترد حزامه الذي سلمه للأمانات بالقسم ولاتليفونه المحمول (التاب)،ولاكرامته ،أيلوم القاضي الذي حكم غيابيا ؟،أم النيابة التي أحالته؟، أم نفسه وثقته في نظام ظن فيه كل الخير؟.