الأحد 28 أبريل 2024 11:26 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

فنون وثقافة

الكاتب الكبير أسامة ريان يكتب : ذلك المـــــــــــكان الآخــــــــــر

الاديب الكبير أسامة ريان
الاديب الكبير أسامة ريان

بحروف حمراء كبيرة ، يطل إسمي متكسراً على امواج تجعدات الكيس الشفاف الكبير .. رسمه على ورقة مقواة ، كانت بيضاء .. أعرفها .. مصفرة الآن ، ربما هي أيضا رسالة من زمان ، كانت تغطي أنابيب ألوانه في العلبة الخشبية عالية الجوانب .. تزينها رسومات دافينشي و رفائيللو ، تحيط بماركة الشركة الأوربية . يرسم خطه .. لا يتخلى أبدا عن ريشته السريالية الحادة .. نادراً ما تلين .. معتاداً حروفه المسننة كالحراب على الجانب الاسفل البعيد للوحاته .. كانت تلين فقط وهو يعلمني الكتابة والهجاء .. لكن ها هو يكتب إسمي الآن .. كإسمه ..

تركتني أمي بالردهة متجهة إلى المطبخ ، البيت هادئ ما قبل الظهيرة .. هو آخر أيام الآسبوع ، لم يحضر الأحفاد للغداء بعد .. الكيس إلى جوار الباب .. طريقته في التأهب لتسليم كتب لنقاد او باحثين ، حتى لا ينسى . جلست في مقعده المجاور للباب .. عصاه تطل علي برأس الفيل العاجي المعقوف .. صوت أمي تغني شادية ينتشر محملاً على أبخرة الطعام .. تصر على وليمة الأحفاد نهاية الأسبوع .. تصيح فينا "أسترد عافيتي يوم زيارتهم .." . لا أدري لم ارتكنت إلى عصاه بينما أتفحص الكتب في الكيس .. كما يفعل الآن .. دهشة فرحة .. أعقبتها انقباضة رهبة ..

كتب قرأتها يافعاً .. استمتعنا بمناقشتها ، عشنا فكرها .. سعيت لاقتنائها .. ليأسي من استعارتها منه .. أو لوعدِ لا يتحقق للبحث عن أحدها ، مع أمر صارم بالكف عن الإلحاح .. لسنوات اكتفيت بتذكر تفاصيلها بصعوبة ، مع الخوف من اللَبس .. أو ربما أجد تعليقات عليها في شذرات متفرقات .. لكنها هنا بين يدي الآن ، محملة بعبق السنين معها في الكيس .. الذي يحمل إسمي .. إزداد عمق الانقباضة .. هي رسالة اخرى ..

انفتح باب غرفته ، أخرجني من الوجوم المقبض .. التقت أعيننا .. لم يفلح ذلك الأفول في عينه اليسرى في إخضاع بريقها .. تلمع الآن مثل أختها .. أشار بيده في تحية عابرة متجها إلى الحمّام .. انتقلت إلى المقعد المجاور .. عاد متمهلاً بخطوات قصيرة متوترة .. توقف يتفحصني .. ألقى نظرة على الكتاب في يدي ، ابتسم .. ابتسامة رضاه النادرة .. زاد من رهبتي .. مد يده ليتناول عصاه ، يستند إليها ليجلس في مقعده .. مازالت الابتسامة عريضة :

- شوف .. لقيت لك الكتب ..

أضاحكه .. لأهرب من الانقباضة التي ركبتني :

- ياه .. ده ملخص تلاتين سنة !! قراءة ومناقشات .. وتعذيب ..

رمقني بحدة ، لم تعجبه "تعذيب" .. مد يده في الكيس ، يعرف كيف رتبهم .. أخرج أضخمهم بغلافه الملون بحيواناته الخرافية .. ازدادت صفرة أوراقه ، التفت إلي .. تلمع عيناه بسعادة في استعراضه للكتب :

- فاكر الأساطير اليونانية .. انبهرنا لم قرأتها وأنت صغير ..

قاطعنا صوت أمي .. تسمع كل ما يدور في المكان ، أطلت برأسها من المطبخ .. تتذكر :

- .. واتفرجنا عليها في سينما مترو .. وعملت لنا مشاكل مع مدرسين التاريخ ..

وجدتني فجأة في المدرسة الإعدادية .. أقف على باب الفصل , الشمس حارقة .. اصر المدرس على عدم حضوري حصته في التاريخ القديم ، لا يعتني بتفاصيل أجدها هامة .. يقول أنها ليست في كتاب المدرسة ، لكن يستمتع زملائي بها عندما أقصها عليهم بأسبابها .. قدمني للمفتش بفخر ذات مرة ، وبعدها توالى طردي .. مع نظرات غير مريحة ، ودرجات تزعج امي وتثير دهشتها .. اخترعتُ حيل كثيرة لتعطيلها عن الحضور إلى المدرسة للقائه ..

أشار إلي .. انتبهت .. في يده الأخرى الكتاب ذو الغلاف الأسود المُقبض .. تتخلله على استحياء لمسات ريشة بيضاء ، تتساءل أكان النهار أولا أم الليل .. كم تناقشنا في ذلك .. ياه .. صِحتُ :

- زرادشت .. نيتشة .. عدو المسيح .. هكذا تكلم .. فاكر ..؟؟

أشار لي معترضاً ، راحت الابتسامة وبدت الجدية :

- خطأ .. ليس عدواً للمسيح .. لا تقل مثل الأغبياء .. فقط هو كشف عن أخطاء العقل

الأربعة .. وصدامه مع الإيمان ..

أصالحه :

- أنا عارف .. وكان رفيقي في سنوات الجامعة .. وياما قضينا ليالي في مناقشته ، بس

ده كلام الناس . وبعدين قول لي ، إيه المكرمة الملكية دي ؟

صمت ينظر إلي .. استأنف البحث في الكيس يتمتم :

- تفتكر ها أعيش كام سنة تاني ؟ إيه رأيك ؟ فاضل كام ؟ ..

أصابني ذهول .. عادت الانقباضة ثانية .. هل يمكن التفكير هكذا .. يقرأ عليّ العناوين .. لا أسمعه ..

جلبة وصخب مع دقة يد صغيرة على الباب .. اندفع حفيدي من بين ذراعي أمه ليلقي بجسده الصغير في أحضانه .. ثم ينسل من بين ذراعيه مهرولاً إلى أمي في المطبخ ، متتبعاً صوت غناءها الذي تحول إلى صوت القبلات والتساؤلات عن أغاني الحضانة ، تحولت شادية إلى "ماما زمانها جاية.." .. ترك الكتب ، همّ واقفاً مستنداً إلى عصاه .. نظر إلي مشيراً إلى المطبخ :

تعالى نروح نغني ونصفق معاهم .. مين عارف .. !!

يتحرك أمامي متباطِئا .. التفت ينظر إليّ متجمداً في مكاني .. تزداد نظراته عمقا سحيقاً .. غريبا

.. قال لي منذ أسبوعين –في عيد ميلاده- أنه يطل علينا الآن من مكان آخر ...