السبت 27 يوليو 2024 05:17 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د/ إيهاب بديوي يكتب : الزمان والمكان في القصة ”الزمكان في قصص نجيب محفوظ”

د/ إيهاب بديوي
د/ إيهاب بديوي

يشكل عنصرا المكان والزمان إطارا يستند إليه الكاتب لعرض أحداثه. وهناك فروق بين طبيعة تكوين وامتداد وتأثير هذا العنصر بين أنواع السرد المختلفة. ففي الوقت الذي يجب أن يكون واضحا بكل تفصيلاته في الرواية. نجد أن التفاصيل المطلوبة تقل في القصة القصيرة. وتكاد تنعدم في القصة القصيرة جدا. لكن ذلك لا يعني الإخلال بالإشارات الدالة على الحد الأدنى المطلوب لمعرفة معالم البيئة التي تدور فيها الأحداث. فالقصة كما قلنا هي مشهد مقتطع من أحداث متصلة لها تأثير ممتد في المستقبل أو نهاية حقبة زمانية بأحداثها داخل إطار مكان معين. لذلك يجب على الكاتب أن يهتم بإبراز معالم المكان وطبيعة تكوينه وكذلك الإشارات الدالة على الحقبة الزمنية التي تدور فيها الأحداث دون الإسهاب في ذكر تفاصيل من الممكن أن تؤثر على سلاسة السرد وتتابع الحدث.
لن نبحث كثيرا في زمان القصص والروايات التي تدور فيها أغلب أعمال الأستاذ. يركز الأحداث في القرن العشرين. بين بداياته المبكرة ونهاياته الغريبة. تتركز أغلب ألأزمنة في النصف الأول تحديدا. حتى زمان الخيال غير المحدد سيدور حول الفكرة التي تصل في النهاية إلى الزمان الذي يفضله الكاتب. وقد تحايل الكاتب على القيود التي فرضتها بعض الأنظمة بالفرار إلى الزمن الوهمي الذي يجذب الأنظار بعيدا عن الهدف الأساسي الذي يريد الوصول إليه. وتلك مهارة أدبية فشل فيها الكثير من كتاب عصره وتعرضوا للتضييق والسجن بسبب ذلك. ولا أستطيع أن اعتبر أن خوف الكاتب من تنكيل السلطة شيء يؤخذ عليه. على العكس. دور الكاتب الحقيقي هو كشف عورات المجتمع والسلطة التي يحاول الجميع إخفاءها دون أن يؤثر ذلك على مسيرته الشخصية. وربما نجد في ديستويفسكي نموذجا مثاليا لذلك الاتجاه. فقد تعرض الكاتب الشهير للكثير من تضييقات السلطة. لكنه استطاع في أعماله الخالدة أن يرد على كل ذلك بقوة عابرة للزمان والمكان.
نصل للمكان. ينطلق الكاتب دوما من أصغر وحدة مكانية في تركيب المدينة. وهي الحارة. نعلم أن الكاتب عاش أغلب حياته داخل القاهرة. وبدأ وعيه الحقيقي مع انتفاضة الشعب التي أشعلت ثورة 1919. تلك الثورة الفاصلة بين حقبتين كاملتين في تاريخ مصر. حيث أزعم أنها نقلت وعي الشعب المصري من عادات وتقاليد وممارسات وطريقة حياة ظل عليها الشعب منذ ما يزيد على ألف عام. وبين التطور المذهل في كل مناحي الحياة تكنولوجيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا وعلميا وهو ما جر معه إجباريا سوسيولوجيا الواقع. التركيبة البنائية للذات المصرية تتحول ببطء منذ بداية القرن التاسع عشر. ثم تسارع ذلك التحول مع بداية القرن العشرين. وهو ما عاصره كاتبنا في خضم ذلك التحول التاريخي. من هنا كانت الحارة هي مرآة ذلك التحول. مكونات الحارة التقليدية من عامّة وفتوات ورجل الدين وممثل الحكومة والمجنون والمتدين والموظف والتقليدي والغني صاحب الهيبة. بينما خلف النوافذ المغلقة تراقب كل ما يحدث تلك العيون الجميلة التي عاشت رازخة تحت تقاليد راسخة لعدة قرون. وقد انطلق الكاتب من المكان إلى آفاق فكرية عميقة جدا مكنته من رصد التحولات الجارية في محيطه منذ قصصه الأولى بداية الثلاثينات ثم انطلق في الأربعينات أكثر داخل تلك التحولات فرصد لنا بعين خبيرة كل ما لم نعرفه من خلال تيمات مستمرة متنوعة بين الحب والكراهية والجريمة والصراع الديني والسياسي والاجتماعي بين الشخصيات المحورية في أعماله الفنية. وفي القصص استطاع تقريبا في كل قصة أن يقدم قطعة بازل للغز التحولان الكبرى. فإذا ما جمعت القصص كلها ثم وضعتها بدقة وفهم في مكانها الصحيح. ستتشكل صورة كاملة متحركة للتحول المجتمعي الذي تم خلال ما يزيد على نصف قرن بين الثلاثينات والثمانينات من القرن العشرين. وقد تطورت فسيفساء المكان ذاته كما رأينا ما حدث في شارع رضوان داخل قصته البديعة صباح الورد. فقد كان يرصد حكايات الماضي ثم يقابلها فورا بتطورات الحاضر في ذلك الوقت. فنرى كيف تحولت الفلل والقصور إلى عمائر وورش. وكيف تغيرت التركيبة السكانية من بكوات وموظفين بدرجات وظيفية مرتفعة إلى صنايعية وأصحاب مهن يدوية حرة. عبقرية التحول في المكان خلال الزمان نراها واضحة في تركيبة الفسيفساء المكتملة لأعماله بتدرج تصاعدها التاريخي. نحن إذن أمام عمل متكامل فريد من نوعه لتشكيل صورة متكاملة لمرحلة مقتطعة من تاريخ مكان محدد الملامح متغير التكوين خلال فترة زمنية معينة.

# د/إيهاب البديوي
روائي وناقد
عضو اتحاد كتاب مصر

د/ إيهاب بديوي مقالات د/ إيهاب بديوي قصص نجيب محفوظ الجارديان المصرية