حسين السمنودى يكتب : ”أيام المجد والنصر: ملحمة أكتوبر 73”
الجارديان المصريةفي صباح السادس من أكتوبر عام 1973، كانت السماء الزرقاء تعلو مصر فيما تشهد إحدى أهم اللحظات في تاريخها المعاصر. الهدوء الذي كان يخيم على البلاد في تلك الساعات لم يكن إلا هدوء ما قبل العاصفة. في الجبهة الأمامية، وقف الجنود المصريون على ضفاف قناة السويس، يترقبون الأمر بالعبور. على وجوههم لم تكن هناك سوى عزيمة لا تعرف التراجع. أما في الجبهة الداخلية، فكان الملايين ينتظرون بشغف وقلق سماع أي أنباء عن أبنائهم الذين رحلوا للدفاع عن الوطن.
عند الساعة الثانية ظهرًا، انطلق صوت المدافع والطائرات معلنًا بداية المعركة. الطائرات المصرية تخترق السماء في تشكيلات محكمة، تهاجم المواقع الإسرائيلية بقوة لم يتوقعها العدو. وفي تلك اللحظة، عبرت القوات البرية المصرية القناة على قوارب بسيطة، متحدين الأسلاك الشائكة والخنادق المحصنة. خط بارليف الذي كان يوصف بأنه الجدار الذي لا يمكن كسره، بدأت دفاعاته تتهاوى واحدة تلو الأخرى أمام الزحف المصري الجسور.
في كل جانب من أرض المعركة، كانت هناك قصص بطولة لا تُنسى. أحد هؤلاء الأبطال كان الرقيب "أحمد" من قرية صغيرة في دلتا النيل. ترك خلفه زوجته وطفله الصغير، حاملاً معه إيمانه بوطنه وشرفه العسكري. وسط أصوات القذائف والانفجارات، كانت كلمات والده ترن في أذنيه: "الأرض مثل العرض، لا يمكن التفريط بها." تلك الكلمات كانت شعلة الأمل التي دفعته لمواصلة القتال، حتى في أصعب اللحظات. أحمد ورفاقه تمكنوا من عبور القناة تحت وابل النيران، وساهموا في تحرير أجزاء من أرض سيناء الغالية.
على الجانب الآخر، كانت الجبهة الداخلية تقف بكل قوتها إلى جانب الجنود. الشعب المصري في القرى والمدن كان يترقب الأخبار في كل لحظة. الأمهات تجهزن الطعام والشراب لإرسالها إلى الجبهة، والعمال في المصانع يعملون بلا توقف لتصنيع الذخائر والمعدات العسكرية. لا أحد كان يشعر بالتعب أو الشك في النصر، فالجميع كان يعلم أن هذه المعركة هي معركة الكرامة والمصير. أم "محمود" كانت واحدة من هؤلاء الأمهات. كل يوم كانت تجلس أمام الراديو، تتابع الأخبار بصمت، متشبثة بصورة ابنها المجند الذي غادر قبل أسابيع. كانت تدعو الله أن يعود إليها سالمًا، لكنها في نفس الوقت كانت تدرك أن الوطن أكبر من كل شيء، حتى من أغلى الناس على قلبها.
كانت البيوت المصرية في تلك الأيام أشبه بالخنادق. النساء كن يجتمعن في المساء لتبادل الأخبار والقصص عن أبنائهن وأزواجهن على الجبهة. كان هناك خوف وترقب، ولكن كان هناك أيضًا فخر هائل يملأ القلوب. الرجال الذين لم يتم استدعاؤهم إلى الجيش كانوا يعملون في خلفية المشهد، يسهمون في أي دور يمكنهم القيام به لدعم المجهود الحربي. حتى الأطفال كانوا يشاركون، يرسمون العلم المصري ويكتبون رسائل دعم إلى الجنود في الجبهة، ترسل لهم مع قوافل المساعدات.
بينما كانت المعركة تشتد على الجبهة الأمامية، كانت هناك معركة أخرى تُخاض في المخابئ والمشافي الميدانية. أطباء وممرضون، يعملون ليلًا ونهارًا لإنقاذ حياة الجنود الجرحى. كانت قصص الشجاعة لا تقتصر على ميدان القتال فحسب؛ في أحد المستشفيات الميدانية، كانت الطبيبة "نورا" تعمل دون توقف، تعالج الجرحى وتدير العمليات الجراحية وسط ظروف قاسية ونقص في الإمدادات. رغم التعب الذي بدا واضحًا على ملامحها، لم تتوقف لحظة عن العمل. كان حبها للوطن وشعورها بالمسؤولية أكبر من أي إرهاق.
وفي القاهرة، كانت الحكومة تعمل بتكتيك مدروس لإدارة الأوضاع الداخلية وتحفيز الشعب على الصمود. الرئيس السادات كان يقف على رأس الدولة، يراقب كل التطورات بحذر وثقة. في كل خطاباته كان يؤكد أن النصر قريب، وأن مصر لن تنكسر أبدًا. الناس في الشوارع كانوا يتجمعون حول أجهزة الراديو والتلفزيون للاستماع إلى كلماته، وكانت روحهم المعنوية ترتفع كلما سمعوا عن تقدم جديد على الجبهة.
وفي يوم مشرق آخر، جاءت البشرى. القوات المصرية كانت تقترب من استعادة سيناء بالكامل. المدن والقرى المصرية انفجرت بالفرح، الأعلام رفرفت في كل مكان، والناس خرجوا إلى الشوارع يهتفون بأسماء أبطال الحرب. مع كل لحظة فرح كانت هناك لحظات حزن أيضًا، فقد فقدت العديد من الأسر أحباءها في هذه المعركة العظيمة. ولكن الجميع كان يدرك أن هؤلاء الشهداء كانوا بذور النصر، وأن تضحياتهم لن تُنسى أبدًا.
وفي النهاية، انتهت حرب أكتوبر بالنصر. لم يكن هذا النصر مجرد انتصار عسكري، بل كان انتصارًا للروح والإرادة المصرية. الشعب الذي وقف متحدًا خلف جيشه، الجندي الذي لم يتوانَ عن التضحية بحياته، والعامل والطبيب والأم والطفل، كلهم كانوا جزءًا من ملحمة النصر.
حرب أكتوبر لم تكن مجرد معركة عابرة في تاريخ مصر؛ بل كانت لحظة تحول تاريخي، جسدت فيها مصر معنى القوة والصمود والكرامة.