الخميس 13 فبراير 2025 02:27 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

دكتور علاء الحمزاوى يكتب : صناعة العقل فى الإسلام

دكتور علاء الحمزاوى
دكتور علاء الحمزاوى

ــ العقل أحد مظاهر تفضيل الإنسان على كثير من الخلق؛ فهو الذي يفرِّق بين الخير والشر، ويَميِز الخبيث من الطيب، وهو الذي يجعل للإنسان قيمة ومكانة في المجتمع؛ فبِهِ يبني ويهدم ويصلح ويفسد؛ لذا ذكره القرآن لفظا ومعنى فيما يقرب من مائتي آيـة، وجعله الإسلام من الضرورات الخمس (الدين والنفس والعقل والنسل والمال) التي يجب حفظها؛ حيث لا تستقيم الحياة إلا بها، وضياعها إحلال للفساد والفوضى واختلال للنظام العام، وقد حفظ الإسلام العقل بتحريم كل ما يغيِّبه سُكْرا أو تخديرا إلا ضرورةً، وربط الإسلام بين التكليفات وسلامة العقل، فلا تكليف ولا حساب لفاقد العقل؛ فجاء في الحديث "‌رُفِعَ ‌الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ".
ــ والمراد بالعقل التفكير والتفكُّـر الذي ينتج عملا مبنيا على علم كالإيمان الناتج عن العلم بالخالق؛ لذا لم يمدح القرآن العقل أو يذمّـه لذاته، إنما مدح وذم بناء على السلوك الناتج عن التفكر، فمدح المؤمنين بقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ}، وذمَّ الكافرين بقوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}، ووصف ندم أهل النار بقوله: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، و{لَــوْ} حرف يفيد امتناع الشيء لامتناع غيره، فدلت الآيـة على أنه لم يكن لهم سمعٌ ولا عَقلٌ، ولا يعني هذا أنهم صُـمٌّ ومجانين، إنما ليس لهم سمع ولا عقل يهديهم إلى الحق؛ حيث أساءوا توظيفهما، والآية تبرز منزلة العقل في الإسلام، وهو ما أكده النبي في قوله: "لِكُلِّ شَيْءٍ دِعامَةٌ، ودِعامَةُ المُؤْمِنِ عَقْلُهُ، فَبِقَدْرِ عَقْلِهِ تَكُونُ عِبادَتُهُ"، والدعامة الآلـة التي تعين المرء على قضاء حاجته، ويُستنبَط من الآية أن النقل مقدَّم على العقل، ولا تعارض بينهما، وهو مذهب أهل السنة.
ــ وتقديرا لمكانة العقل منحه الإسلام حـق الاجتهاد؛ لأن نصوص الشريعة محدودة مقارنة بالمستجدات التي لا تنتهِي، فجاء في الحديث «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»، وفي الحديث «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، لكنه اجتهاد محتاط بالنقل، فلا يناقض نقلا واضح الدلالة، وهو ما عُبِّر عنه بعبارة "لا اجتهاد مع النص"، وألمح القرآن إلى ضرورة الاجتهاد عبر نصوصه العامة كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}، و{مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِن شَيْءٍ}، ومع تقدير الإسلام للعقل منعه من التفكير فيما لا يعود عليه بالنفع كالتفكير في ذات الله والغيب والقـدَر، ففي الحديث "تفكَّروا في خَلْقِ اللهِ، ولا تفَكَّروا في اللهِ؛ فإنَّكم لن تقدُروا قَدْرَه"؛ لأنَّ العقل مهما بلغ اتساعا في الأفق فهو محدود الطاقات والملكات.
ــ وإعلاء لمكانة العقل حرص الإسلام على صناعته بإتقان؛ لأنه صنع الله الذي أتقن كل شيء، وذلك عبر التحلِّي بالقيم الإيجابية واجتناب القيم السلبية، فتتم صناعة العقل بالعلم؛ فرفع الله منزلة العلماء؛ قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، وتتم بفحص المعلومات، فلا تُقبَل المعلومة دون التثبت منها، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، كما تتم بالنظر والتدبر في الكون والخلق، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ}.
ــ وتتم صناعة العقل بالتحذير من اتباع الهوى والظن والانتقائية في الاختيار؛ قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وقال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}، و{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، وتتم صناعة العقل بالنهي عن التقليد الأعمى المخالف للحق؛ قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}، كما تتم بتحريم كل ما يؤدي إلى إفساد العقل؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وفي الحديث "كلُّ مُسْكرٍ خمرٌ وكلُّ مُسْكرٍ حرامٌ".