شحاتة زكريا يكتب : المدن الصناعية.. معركة مصر الكبرى نحو المستقبل


في قلب كل نهضة اقتصادية كبرى ، يقف التصنيع كركيزة أساسية. لم تكن الأمم العظمى لتصل إلى مجدها دون ثورة صناعية تحررها من قيود الاقتصاد التقليدي ، وتجعلها لاعبًا أساسيًا في ساحة التجارة العالمية. واليوم تجد مصر نفسها أمام مفترق طرق حيث لا يمكن للاقتصاد الوطني أن يحقق قفزته المنتظرة دون تبنّي رؤية صناعية جريئة ، تعيد رسم خريطة التنمية وتفتح أبوابا جديدة للاستثمار والإنتاج والتصدير.
فكرة إنشاء مدن صناعية متخصصة ليست ترفًا اقتصاديًا، بل ضرورة وجودية في ظل سباق عالمي محموم على استقطاب رؤوس الأموال، وتوطين الصناعات، وبناء سلاسل إنتاج متكاملة. العالم لا ينتظر ومن لا يملك القدرة على التصنيع المتطور سيبقى رهينة لاستيراد المنتجات والخدمات عاجزا عن المنافسة أو تحقيق الاكتفاء الذاتي.
خلال العقود الماضية شهدت مصر محاولات متكررة للنهوض بالقطاع الصناعي ، بعضها نجح لفترات، وبعضها تعثر تحت وطأة البيروقراطية وضعف التخطيط. لكن اليوم في ظل التحولات الاقتصادية المتسارعة، يصبح إنشاء مدن صناعية متخصصة أمرًا لا يقبل التأجيل. الحديث هنا ليس عن مناطق صناعية تقليدية، بل عن كيانات اقتصادية متكاملة، تملك بنيتها التحتية الخاصة، ومناخها الاستثماري الجاذب، وتشريعاتها الداعمة، وربطها المباشر بالموانئ وشبكات النقل الحديثة.
الرهان الحقيقي ليس فقط على إنشاء هذه المدن بل على اختيار الصناعات المناسبة التي تستطيع أن تصنع الفارق. لم يعد مقبولًا أن نستمر في الإنتاج العشوائي، أو الصناعات التي لا تحقق قيمة مضافة حقيقية. العالم يتحرك نحو التكنولوجيا المتقدمة، والصناعات عالية التقنية، والطاقة النظيفة، والصناعات الدوائية المتطورة، وهي المجالات التي يجب أن تكون في صدارة أولويات أي مشروع تنموي جديد.
لكن مع أهمية البنية التحتية والتخطيط الصناعي فإن العامل الأهم في هذه المعادلة هو البيئة التشريعية والاستثمارية. الدول التي نجحت في التحول إلى قوى صناعية لم تحقق ذلك بالأسمنت والحديد فقط، بل بتوفير بيئة أعمال مرنة تعزز الابتكار ، وتضمن للمستثمرين استقرارًا قانونيًا وإجرائيًا وتحفّز الإنتاج والتصدير من خلال حوافز حقيقية، وليس مجرد شعارات دعائية.
إن إنشاء مدن صناعية متخصصة لن يكون مجرد مشروع اقتصادي ، بل سيكون إعادة رسم لخارطة مصر الاقتصادية والاجتماعية. فهو يعني خلق ملايين الوظائف الجديدة وإطلاق موجة غير مسبوقة من المشروعات الصغيرة والمتوسطة المرتبطة بالصناعات الكبرى وتعزيز القدرات التصديرية للدولة ، وتقليل الاعتماد على الواردات وتحقيق طفرة حقيقية في معدلات النمو الاقتصادي.
في هذا السياق لا بد من الاعتراف بأن مصر تمتلك فرصة تاريخية غير مسبوقة. موقعها الجغرافي الفريد ، وبنيتها التحتية التي شهدت تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، إلى جانب خبراتها الصناعية المتراكمة، كلها عوامل تجعلها مؤهلة لتكون مركزًا صناعيًا إقليميًا وعالميًا. لكن هذه الفرصة لن تتحول إلى واقع دون رؤية واضحة وتنفيذ دقيق وإرادة سياسية واقتصادية لا تتردد أمام العقبات أو المعوقات.
المعركة القادمة ليست معركة شعارات،د بل معركة أرقام واستثمارات ومعركة قدرة على بناء اقتصاد قوي ومستدام. من يراهن على التصنيع يراهن على المستقبل ومن يؤجل هذه الخطوة سيجد نفسه خارج السباق العالمي. مصر لديها كل المقومات لتكون قوة صناعية كبرى فهل نمتلك الجرأة للانطلاق نحو هذا المستقبل؟