شحاتة زكريا يكتب : نتنياهو بين فوضى الداخل ورهانات الخارج .. مراوغة حتى آخر نفس


حين يتتبع المرء خطوات بنيامين نتنياهو يدرك سريعا أن الرجل لا يلعب بالورق الظاهر على الطاولة، بل يتقن لعبة الخداع السياسي وكسب الوقت بمهارة مقامر محترف. منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة ، لم يكن هدفه الأساسي تحقيق نصر عسكري حاسم ، وإنما البقاء في المشهد السياسي لأطول فترة ممكنة حتى لو كان الثمن هو تعميق الأزمة الأمنية واستنزاف إسرائيل من الداخل.
في كل مرة تقترب فيها المفاوضات من نقطة الحسم ، يلجأ نتنياهو إلى تكتيكه المفضل: الانسحاب ، ثم التراجع ، ثم إرسال وفود غير مخولة باتخاذ قرارات ، قبل أن يعيد الكرة إلى ملعب المقاومة الفلسطينية متهما إياها بالتعنت. إنها استراتيجيا قديمة لكنها أثبتت فعاليتها في إطالة أمد الصراع وإبقاء إسرائيل في حالة طوارئ دائمة ، وهي بيئة مثالية لهروب نتنياهو من المحاسبة الداخلية.
لكن الحقيقة التي لا يمكن لنتنياهو إنكارها أن رصيد المناورة بدأ ينفد. فالمظاهرات الداخلية التي يقودها أهالي الأسرى الإسرائيليين والغضب الشعبي المتصاعد بسبب فشله في إعادتهم يضاف إليها تصدعات داخل حكومته وخلافات مع القيادات العسكرية كلها عوامل تجعل مساحته للمراوغة أضيق من أي وقت مضى. استطلاعات الرأي الأخيرة تُظهر أن أكثر من 70% من الإسرائيليين يريدون إنهاء الحرب بأي ثمن وقطاع واسع منهم يحمّله شخصيا مسؤولية استمرارها بلا جدوى.
على الجبهة الخارجية لم يعد الدعم الأمريكي على بياض كما كان في السابق. صحيح أن الرئيس دونالد ترامب لا يزال يمنحه الغطاء السياسي، لكن واشنطن تدرك أن حرب غزة لم تعد ورقة رابحة لا في الداخل الأمريكي حيث يتصاعد الغضب الشعبي تجاه سياسات الدعم المطلق لإسرائيل ولا في الإقليم حيث باتت تل أبيب في مواجهة جبهات مشتعلة من غزة إلى جنوب لبنان، مرورا بسوريا والعراق واليمن.
لكن رغم كل هذه الضغوط فإن نتنياهو لا يزال يراهن على الوقت وهو يدرك أن أي اتفاق يضع حدا للحرب قد يعني نهايته سياسيا. لذلك يسعى لإيجاد مخرج يضمن له البقاء في السلطة حتى لو كان ذلك على حساب مستقبل إسرائيل نفسها. وهو ما يفسر محاولاته المستميتة لإحياء خطة "الجنرالات" التي تقوم على تقسيم غزة إلى مناطق معزولة وفرض واقع جغرافي جديد يمنع أي عودة إلى ما كان عليه الوضع قبل 7 أكتوبر.
ورغم أن المقاومة الفلسطينية أبدت استعدادها لتقديم تنازلات مدروسة ، مثل الموافقة على إطلاق سراح الجندي الأمريكي عيدان ألكسندر مقابل تقدم في مسار التفاوض فإن نتنياهو يتجاهل هذه المبادرات عمدًا لأنه لا يريد اتفاقًا متوازنًا، بل صفقة استسلام تُفرض تحت النيران.
إذن إلى أين تتجه الأمور؟ الواقع يقول إن السيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات. فإذا استمرت الولايات المتحدة في ممارسة الضغط الجدي على إسرائيل ، فقد نرى اختراقا في المفاوضات خاصة إذا اقتنع نتنياهو بأنه لم يعد أمامه خيارات كثيرة. لكن إذا استمرت لعبة كسب الوقت فإن الصراع قد يزداد اشتعالًا وربما يمتد إلى ساحات أخرى في المنطقة، وهو ما قد يجعل إسرائيل في مواجهة تحديات أمنية تفوق قدرتها على الاحتمال.
في النهاية يبدو أن نتنياهو يصرّ على اللعب حتى اللحظة الأخيرة غير عابئ بالعواقب. لكن في السياسة كما في الشطرنج قد يكون الهروب إلى الأمام مجرد خطوة أخيرة قبل السقوط الحتمي.