السيناريست عماد النشار يكتب : الحرب النفسية: من إنسان الغاب إلى الذكاء الاصطناعي


لو كنت تعتقد أنك سيد قراراتك، فربما تحتاج لإعادة التفكير. في عصر التكنولوجيا، لم تعد الحرب النفسية مجرد صراخ في ساحة المعركة، بل تسللت إلى هاتفك، نشرتك الإخبارية، وحتى فريق الكرة الذي تشجعه. من إنسان الغاب الذي يخدع خصومه بصراخه، إلى الذكاء الاصطناعي الذي يخدعك بمحتوى مصنوع خصيصًا لك، بات التحكم في العقول فنًّا متطورًا لا يحتاج إلى رصاصة واحدة.
في الماضي السحيق، كان الإنسان البدائي يواجه خصومه بأسلوب بسيط لكنه فعال: الصراخ والتهويل. على قمة تل، كان يصدر أصواتًا مرعبة ليقنع خصمه بأنه وحش كاسر، بينما كان يرسم على جدران الكهوف مغامرات بطولية ربما لم تحدث أصلًا، لكنه نجح في ترك الأثر النفسي المطلوب.
أما الفراعنة، فقد رفعوا سقف اللعبة، فوثّقوا انتصاراتهم على المعابد وأقنعوا الأجيال بأنهم لا يُهزمون أبدًا. نفس الحيلة استخدمها الإسكندر الأكبر، لكن على نطاق أوسع، فقبل أن يصل جيشه إلى أي مدينة، كانت أخبار "جيشه الذي لا يُقهر" تصل قبله، مما يجعل نصف الأعداء يستسلمون قبل القتال.
مع مرور الزمن، تطورت الحرب النفسية من مجرد تهويل، إلى استراتيجيات أكثر خبثًا. الصيني صن تزو ألّف كتابه فن الحرب وأعطى نصائح ذهبية، مثل: "اجعل عدوك يشك في نفسه، وسيهزم نفسه بنفسه". الرومان أعجبهم الكلام وطبقوه بحرفية، حيث كانوا ينشرون الشائعات بين الأعداء لشلّهم نفسيًا قبل المواجهة.
أما في الحرب العالمية الثانية، فقد كانت الخدع النفسية من الوزن الثقيل، مثل بث إذاعات مصممة خصيصًا لتحطيم معنويات الجنود، أو إقناع هتلر بأن غزو النورماندي مجرد تمويه، ليقضي وقتًا أطول وهو يحاول فك اللغز بينما كان الحلفاء يتقدمون.
ثم جاءت الحرب الباردة، حيث لم يكن الصراع على الأسلحة النووية فقط، بل على العقول. أميركا والاتحاد السوفيتي تبادلا البروباغندا عبر الأفلام، الموسيقى، والأخبار الملفقة. وكالة المخابرات الأميركية قامت بعمليات مثل "عملية الفوضى"، بينما استخدمت روسيا الإعلام لترويج صورة وردية عن الشيوعية، لدرجة أن البعض اعتقد أن موسكو جنة على الأرض... حتى سقط الاتحاد السوفيتي!
لم تعد الحرب النفسية تقتصر على السياسة، بل أصبحت جزءًا من الاقتصاد أيضًا. في 1997، تعرضت اقتصادات آسيا لهزة عنيفة بعد نشر تقارير مضللة، مما أدى إلى انهيار أسواق المال. واليوم، تغريدة واحدة من إيلون ماسك يمكنها رفع أو خفض قيمة شركة بمليارات الدولارات في ثوانٍ معدودة.
حتى الرياضة لم تسلم! في مونديال 1950، فازت الأوروغواي على البرازيل لأن مدربها استخدم حربًا نفسية بارعة جعلت البرازيليين يدخلون الملعب بثقة مفرطة، ثم خرجوا منه بصدمة وطنية. واليوم، يكفي تصريح ناري من مدرب أو تغريدة مستفزة لتشعل الجماهير وتؤثر على أداء الفرق، ويكفي متابعة الدوريات العربية لتجد أمثلة طازجة على ذلك.
نحن الآن في مرحلة الحرب النفسية الذكية، حيث الجيوش الإلكترونية تخلق حقائق بديلة، والخوارزميات تسيّر الرأي العام، وتقنية Deepfake "التزييف العميق"،تصنع فيديوهات تجعلك ترى ما لم يحدث أصلًا. الانتخابات الأميركية 2016 كانت مثالًا صارخًا على ذلك، حيث استُخدمت آلاف الحسابات المزيفة لتغيير قناعات الناخبين.
في هذا العصر، لم يعد كافيًا أن تسأل "هل هذا الخبر صحيح؟"، بل يجب أن تسأل: "هل هذه الحقيقة أم مجرد منتج رقمي مصنوع ليؤثر عليّ؟". ومع تزايد تعقيد المشهد، يصبح السؤال الأهم: هل سنستخدم هذه الأدوات لصالحنا، أم ستستخدمها القوى الكبرى ضدنا؟
الحرب النفسية ليست ظاهرة جديدة، لكنها تطورت مع الزمن وأصبحت أكثر دهاءً. اليوم، العقول هي ساحة المعركة الحقيقية، سواء عبر الإعلام، الاقتصاد، الرياضة، أو التكنولوجيا. لذا، في المرة القادمة التي تشعر فيها بأن رأيك قد تغيّر فجأة، اسأل نفسك: هل هذا رأيي فعلًا، أم أن هناك من وضعه في رأسي دون أن أدري؟