الثلاثاء 1 يوليو 2025 03:27 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : الأبعاد الثلاثية لطمع الغرب في البلاد العربية

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

لم يكن الطمع الغربي في الدول العربية يومًا نزوة عابرة أو اندفاعًا لحظيًا، بل هو مشروع طويل الأمد له جذور ضاربة في عمق التاريخ، صاغته دوافع اقتصادية وجيوسياسية وثقافية، وظل الغرب يسعى بكل الوسائل للسيطرة على مقدرات العرب، تارة بالحروب والغزوات، وتارة بالمعاهدات والاتفاقيات التي تخفي تحت بنودها قيودًا ثقيلة من التبعية والهيمنة.

البعد الأول لطمع الغرب كان اقتصاديًا بامتياز. منذ مطلع العصور الحديثة، أدركت الدول الأوروبية أن أراضي العرب تختزن ثروات لا تقدر بثمن: النفط، الغاز، المعادن، والممرات التجارية الحيوية التي تتحكم في مفاصل العالم. فاندفعت الجيوش الفرنسية إلى الجزائر وتونس والمغرب، واحتل البريطانيون مصر والسودان والخليج، وتحكموا في ثرواتها لعقود. في العصر الحديث، تكرر نفس المشهد بصورة أكثر خبثًا: الشركات الكبرى مثل شل وتوتال وإكسون موبيل لا تزال تمتص الثروات النفطية العربية عبر اتفاقيات مجحفة، تحرم الدول العربية من كامل حقوقها، وتبقيها تابعة اقتصاديًا للغرب. نموذج العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003 يُعد أوضح مثال: سُرقت ثرواته النفطية علنًا تحت شعار "إعادة الإعمار"، بينما يعيش شعبه اليوم بين ركام الفقر والبطالة.

أما البعد الثاني فكان سياسيًا واستراتيجيًا. أدرك الغرب أن السيطرة الاقتصادية لا تكتمل إلا بالتحكم السياسي، فعمل على تفتيت الدول العربية إلى كيانات صغيرة متناحرة، وزرع بداخلها بذور الفرقة والصراع الطائفي والعرقي. بعد الحرب العالمية الأولى، رسمت معاهدة سايكس-بيكو خريطة العالم العربي على مقاس المصالح الغربية، وضمنت وجود كيان صهيوني في قلب فلسطين، ليفصل المشرق عن المغرب ويبقى عنصر توتر دائم. وما زالت لعبة التقسيم مستمرة: تقسيم السودان، تمزيق العراق، تدمير ليبيا، محاولة تفكيك سوريا واليمن، كلها شواهد دامغة على مشروع سياسي غربي هدفه الأساسي منع العرب من تشكيل قوة موحدة مستقلة. الأضرار الناتجة عن هذا البعد لا تعد ولا تحصى: ملايين القتلى، تهجير شعوب بأكملها، انهيار دول كانت عريقة، وانتشار الطائفية والميليشيات المسلحة في كل ركن عربي.

البعد الثالث، والأخطر، كان ثقافيًا. أدرك الغرب أن بقاء الهيمنة يحتاج إلى غزو العقول قبل احتلال الأرض. فعمل على تصدير ثقافته وأنماط حياته إلى المجتمعات العربية، سواء عبر التعليم، أو الإعلام، أو السينما، أو حتى الموضة. اليوم، ترى الشاب العربي يقدّس النموذج الغربي في كل شيء، بدءًا من الملبس والمأكل، وصولًا إلى نمط التفكير والسلوك. تم ضرب منظومة القيم العربية والإسلامية في مقتل: الأسرة تآكلت، الأخلاق تراجعت، والانتماء الوطني أصبح باهتًا أو مشوهًا. عبر منصات الإعلام الحديثة، تمكن الغرب من فرض رؤيته للعالم على المجتمعات العربية، مما أدى إلى تمييع الهوية وتمزيق الانتماء. ولعل أسطع الأمثلة ما جرى خلال ما يسمى "الربيع العربي"، حين اجتاحت الشعارات المستوردة الساحات، فانهارت الدول وتحولت إلى ساحات حرب مفتوحة، بينما جلس الغرب على التل يتفرج ويستفيد.

الأضرار الجسيمة التي وقعت — وتقع وستقع — على بلاد العرب جراء هذا الطمع الغربي لا تنحصر في الخسائر المادية، بل تمتد إلى الخسائر المعنوية والوجودية.
اقتصاد مدمر، تعليم تابع، شباب تائه، حروب أهلية لا تنتهي، مشاريع تنموية تتعثر، وقرار سياسي مرتهن لا يملك القدرة على الانعتاق. والأخطر أن المشروع الغربي لا يزال يعمل بقوة، ويتلون حسب المرحلة: من احتلال مباشر إلى هيمنة اقتصادية، ومن غزو ثقافي إلى حرب إلكترونية نفسية.

اليوم، وبعد قرن كامل من الهيمنة المنظمة، تقف الأمة العربية أمام مفترق طرق خطير. فإما أن تستفيق من سباتها وتستعيد هويتها، أو تظل حبيسة فلك التبعية، تدفع فاتورة طمع الآخرين من دماء أبنائها ومستقبل أجيالها.

معركتنا مع الطمع الغربي معركة وجود، لا معركة موارد فقط. وهي معركة تتطلب وعيًا حقيقيًا بجذورها وأبعادها وأساليبها الجديدة، وشجاعة سياسية وثقافية واقتصادية قادرة على المواجهة لا التكيف مع الاستعباد الناعم.