الكاتب الكبير سعدنى السلامونى يكتب: ما بين الحياة والموت


مؤلم جدًّا
حين تكون مبدعًا كبيرًا، ولك تاريخ عظيم، وتتلمذ على منتجك الإبداعي أجيال وأجيال،
سواء كان منتجًا علميًّا أو إبداعيًّا أو فكريًّا،
وفجأة تجد نفسك في نهاية عمرك معتقلًا في جسد تحوَّل إلى فريسة لكل من حولك،
والكاميرات التي كانت تطاردك من كل اتجاه، هي هي التي تتغافل عنكَ كأنك في حكم الأموات،
والمؤسسات والوزارات التي كانت تطاردك أينما تكون، هي التي تتجاهلك،
وأنت مسجون في جسد يجلدك كل دقيقة بأمراضه، ويسلمه للفراش حتى ينام الألم،
ولا يكون أمامك غير مكوك فضائي لحياتك، وهو الخيال.
والخيال الذي صنعتَ به أعظم أجيال، أصبح على صدره هزيلاً، لا يفعل شيئًا إلا الغوص في بئر الذكريات،
وحين تترجاه أن يسافر إلى المستقبل ليأتي بالأحداث القادمة، يقول لك: هيهات، لم يعد لديّ قوة توازي قوة زمان، أنا هرِمتُ مثل جسدك، وقد يكون جسدك أقوى.
فتعود به إلى الذكريات، ولا يأتيك إلا بالأموات من الأهل والأصدقاء والمحبين والعتقاء.
تتجه إلى اسمك الذي كان يرفرف في سماء الوطن العربي، لتعتمد على قوة وجوده،
فتجده بين الحياة والموت، مثل جسدك وجسد خيالك، وهو لا يمثل أي قيمة بين الناس،
ولا بين أبنائك الذين وضعوا ألف ستار وستار بينك وبين تلاميذك الأوفياء، حتى يتفاجأوا بموتك.
فكل ما يهم أبناءك هو ثمن لوحاتك أو كتبك أو علمك،
فتكتشف أنك كنت ولا زلت مجرد خزينة لأبنائك وزوجتك.
وفجأة، يقف عقلك عند كيفية معالجة الأمراض التي تحوّلت إلى كَرايِج على ظهر حياتك،
من سكر إلى ضغط إلى قرحة،
وفجأة تكتشف أنك تعيش بنصف ذاكرة، ونصف خيال، ونصف نظر، ونصف جسد.
ويغيب عنك وجودك كل حين، ويعود كل حين،
وفي غياب وجودك، تستولي زوجك على شيء من إبداعك وتقبض ثمنه سرًّا،
هي وأبناؤها الذين يتمنّون رحيلك اليوم قبل غدٍ ليحصلوا على ما تركته من إرث.
وبعد رحيلك، يأتي ابن من أبنائك ويستولي على إبداعك ويضع عليه اسمه،
والذين يديرون الوسط الثقافي يعلمون كل العلم أنه إبداعك،
ولكنهم ينشرونه باسم ابنك انتقامًا منك،
ليكون أكبر مسمار في نعش وجودك ونعش تاريخك.
ينتقم شياطين الوسط الثقافي منك بأبنائك، لأنك حين كنت في صحتك وعافيتك، أدخلتهم جميعًا، ومن وراءهم، إلى الجحور،
فيدمّرون أعز ما تملك، وهو تاريخك.
فتعود من الموت لتعيش بين الحياة والموت، أو بمعنى أدق: تعيش ما بين الموت والموت.
فتعلم أنك انتقلت من برواز الكذبة لحقيقة الحقائق، وتعلم أنك كنت تعيش في أكبر كذبة اصطناعية.
كل من حولك اصطناعي.
والذي يزيد الطين بلّة:
تنظر بجوارك، فتجد نظارتك اصطناعية، وعكازك اصطناعي، وأسنانك وضروسك اصطناعية، وزوجك اصطناعية،
وأشقاؤك وأصدقاؤك وأبناؤك.
وفجأة تكتشف أنك تشتري يومك بكمية أدوية لا تُحصى ولا تُعد،
أدوية أيضًا اصطناعية، تأتي لك بيوم اصطناعي،
وتنظر إلى الماضي، حين كانت الدنيا تحت أقدامك،
وفجأة، ودون سابق إنذار، تجدها فوق رأسك،
وهي التي تمارس عليك حياتها كيف تشاء،
حين تكون مبدعًا كبيرًا، وتصل إلى نهاية عمرك.
#سعدنى السلامونى
محو الأمية البصرية