الثلاثاء 13 مايو 2025 04:01 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : ملوك الخليج يفهمون عقلية ترامب

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

في عالم السياسة الذي تكتنفه التعقيدات وتتقاطع فيه المصالح، برز مشهدٌ لافت ومؤثر يعكس عمق الفهم الاستراتيجي المتبادل بين زعماء الخليج والرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ففي زيارته التاريخية الثانية للمنطقة، عاد ترامب إلى الخليج ليس كرئيس سابق يُعيد تلميع صورته، بل كفاعلٍ أساسي في تشكيل المعادلات الجديدة للشرق الأوسط، حاملاً معه ذاكرة من التحالفات، وفهماً دقيقاً لطبيعة الأنظمة، وعقلاً تجارياً يعرف من أين تؤكل الكتف.

يفهم ملوك الخليج، بذكائهم السياسي المتراكم، أن ترامب ليس رئيساً تقليدياً يقود بمنهج المؤسسات أو يلتزم بالتقاليد السياسية الأمريكية المحافظة، بل هو رجل صفقات، تستهويه لغة الأرقام، وتغريه العوائد الاقتصادية، ويعرف كيف يربط بين المال والسياسة والدبلوماسية. لقد نجحوا في التعامل معه في فترته الأولى، وها هم الآن، أكثر استعداداً لتوظيف حضوره مجدداً بما يخدم مصالحهم الاستراتيجية. هذا الفهم هو ما جعل الاستقبال الخليجي له يفوق التوقعات، ويتحول إلى إعلان سياسي غير مباشر عن توازن جديد في العلاقات الدولية، توازن تصنعه المصالح أكثر مما تصوغه المبادئ.

زيارة ترامب للخليج ليست زيارة عابرة، بل هي حدث مفصلي يُعيد رسم بعض ملامح الخارطة السياسية في الشرق الأوسط. لم تأتِ الزيارة من باب المجاملات الدبلوماسية، وإنما جاءت محمّلة بملفات شديدة الحساسية والتأثير، تبدأ من أمن الخليج، ولا تنتهي عند تطورات غزة، وملف إيران، وصفقات التسليح، والتحالفات الاقتصادية العملاقة. الخليج اليوم ليس كما كان قبل عقد من الزمان؛ هو قوة اقتصادية مؤثرة، ومركز استثماري عالمي، ومحور سياسي فاعل، ويعلم ترامب أنه إذا أراد أن يصنع مجداً خارج حدود أمريكا، فعليه أن يعود إلى الخليج، حيث الثروة، والحسم، والواقعية السياسية.

ويدرك قادة الخليج أن ترامب مختلف عن الإدارات الديمقراطية، خاصة تلك التي ترى في القيم الليبرالية مقياساً للعلاقات. أما هو، فقد أثبت أنه ينظر إلى الدول بعين الجدوى، من يدفع أكثر، ويشتري أكثر، ويستثمر أكثر، هو الحليف الأقرب. ومن هنا، فإن ضخ المليارات الخليجية في مشروعات أمريكية لم يكن استسلاماً لابتزازه، كما يظن بعض المحللين الغربيين، بل كان جزءاً من لعبة ذكية؛ استثمار في النفوذ، وتأمين للمنطقة عبر أدوات القوة الناعمة، وتقوية لعلاقات التحالف بعيداً عن الشعارات التي لا تحمي الأوطان.

ترامب يعلم جيداً أن الخليج لا يتحرك عبثاً، وأنه كلما اقترب منهم، اقترب من دائرة التأثير في الشرق الأوسط بأكمله. فزيارة واحدة للرياض أو أبو ظبي تعني الوصول غير المباشر إلى عمق الملفات: فلسطين، اليمن، إيران، وتركيا. ولهذا جاء متسلحاً بخطاب واضح: المال مقابل الحماية، والصفقات مقابل التغاضي، والدعم مقابل الاصطفاف. لكن الخليج، الذي يبدو وكأنه يُساير ترامب في لغته، لا يمنحه كل شيء بلا مقابل. فهم لا يراهنون على شخصه، بل يستثمرون فيه كظاهرة، ويعرفون كيف يتعاملون معه من منطلقات عقلانية تخدم مصالحهم في الحاضر والمستقبل.

التغيرات التي ستطرأ على الساحة الدولية والعربية بعد زيارة ترامب قد تكون جذرية. أولاً، سنشهد تحولات في ملف العلاقات الخليجية الإسرائيلية، خاصة في ظل الضغوط الأمريكية للدفع نحو تطبيع أوسع، لكن الخليج سيستخدم هذا الملف ورقة تفاوض مشروطة بإحراز تقدم حقيقي في القضية الفلسطينية. ثانياً، من المرجح أن تعود المواجهة مع إيران إلى واجهة المشهد، ولكن بطريقة أكثر تعقيداً، فترامب ليس مغامراً عسكرياً كالسابق، بل قد يفضل سياسة الابتزاز الاقتصادي لإعادة طهران إلى طاولة التفاوض وفق شروط جديدة. ثالثاً، سيكون لهذه الزيارة أثر في تعزيز التحالفات الأمنية، حيث سيُعاد تفعيل اتفاقيات الدفاع المشترك، مع تحديثات تكنولوجية تتعلق بالذكاء الاصطناعي والتسليح الرقمي، في ظل التهديدات المستجدة التي لم تعد فقط من دول بل من جماعات وشبكات تمتلك تقنيات متقدمة.

أما على الصعيد العربي، فقد تعيد زيارة ترامب فتح ملف القيادة الإقليمية. من سيقود العرب؟ من يمثل صوتهم؟ الخليج بات رقماً صعباً، وأصبح لاعباً محورياً لا يُمكن تجاوزه، وهذا ما قد يدفع دولاً أخرى إلى إعادة ترتيب أوراقها، سواء بالمصالحة مع الخليج أو بمنافسته على النفوذ. وفي خضم كل هذا، قد يجد العالم العربي نفسه بين قوتين: واحدة تسعى إلى بناء واقع استراتيجي يقوم على المصالح، وأخرى لا تزال أسيرة للشعارات دون أدوات تنفيذية.

في المجمل، يمكن القول إن ملوك الخليج لم يتعاملوا مع ترامب كظاهرة مؤقتة، بل قرأوا جيداً خريطته الذهنية، واستثمروا في أسلوبه البراغماتي، ونجحوا في ترويض اندفاعه نحو منطق القوة والمال، ليجعلوا من زيارته مناسبة لتكريس دورهم كحلفاء لا غنى عنهم، وكشركاء يمتلكون الرؤية والثروة، في عالم لم يعد يعترف إلا بالأقوياء.

حسين السمنودى مقالات حسين السمنودى ملوك الخليج يفهمون عقلية ترامب الجارديان المصرية