لمى بدران تكتب : الكاتب اللبناني أشرف المسمار يتشظّى في روايته (ثالث ثلاثة) ويروي الكثير عن الاضطراب الجنسي


لا يتجرّأ الكثير من الكُتّاب على تناول القضايا الحسّاسة التي تفتح أمامهم سيلاً من الرفض والاتّهامات والنّقد السّلبي اللّاذع، وعندما يخطو أحد الكتاب هذه الخطوة فهذا يعني أنّ الجرأة من سماته الأساسيّة، وأنّ هناك دوافع حقيقيّة كبيرة أثّرت فيه لدرجة أن يكتب عنها رواية، ولربما عاش الكاتب اللبناني أشرف مسمار حكاية في داخله نتيجة لحالةٍ ما تعاطفَ معها ومن ثمّ أنزلها على الورق لتولد على شكل رواية تفاصيلها جمّة وأحداثها متوقعّة لكنها بسرد يستفزّ العواطف ويثير الاهتمام لتتعاطف رغماً عنك مع أحداثها المؤلمة، وقد تصل إلى أن تذرف دموعاً بسبب طرحه العديد من أشكال المعاناة عند فئة معيّنة من الناس، أولئك الذين يهاجرون حتى من ذواتهم ويفقدونها حد التّشظّي تماماً، إذ جاءت هذه الرواية تحت عنوان (ثالث ثلاثة_ شظايا الذات) ليكون عنواناً محيّراً وغامضاً لا نستطيع أن نحزر موضوعه، ولكن نستطيع أن نشعر مع ما يضيفه الغلاف لنا من رسم لظل رجل وراءه ظل أكبر لامرأة، بأنه يخص أشياء ما بين المرأة والرجل، وليشير أيضاً الرقم المكتوب على رأس الغلاف (+18) على أنه يتضمن مشاهد تصويرية خاصة جدّاً أو تتجاوز الحدود الاجتماعية والأعراف والتقاليد، كي نكتشف لاحقاً أنّها ليست تجاوزات فعليّة بل شروحات علميّة قد لا يستوعبها من هم أصغر سنّاً، وقبل البدء بالحديث عن هذه الرواية أريد أن أشير إلى أن صاحبها طبيب جرّاح وبدا لي أن شخصيّته المهنيّة الحقيقيّة تظهر بشكلٍ جليّ في العديد من شخصيات هذه الرواية.
يخطفنا الكاتب منذ البداية إلى عوالم الجريمة التي هي النهاية المحتومة للبطل وبطريقة دراميّة شديدة التفصيل في المكان يبدو دخوله إلى الرواية مشهداً من فيلمٍ تاريخيّ أو بوليسيّ، وأبرز ما يظهر في هذه البداية هي عبارة فلسفيّة منقوشة على جدران بئر وسط قلعة نائية هي "لديك الماء.. لكن ليس لديك الروح"، إنها عبارة توقظ فينا تساؤلات حول ماهية الوجود الإنساني وارتباطاته الكونيّة، ثم يكشف الستار عن الشخصية الأساسية "يم" التي ترعرت في كنف عائلة مشتتة تفتقد السلوكيات الحميميّة والعناية والحماية، لتتعرض خلال طفولتها إلى تحرّش جنسي من قريبة لها ما يسبب لها الاضطراب والخلل الكبيرين بقية مراحل حياتها. وليس في مرحلة زواجها التقليدي من رجل لا تعرفه فقط، بل فيما بعد أكثر وأكثر.
لا رحمة في الحرب، تلك التي تدفع الناس إلى الهجرة هرباً من بطشها الذي يسحق الإنسانية قبل الجسد، وهنا في هذه الرواية يروي لنا الكاتب اللبناني أشرف ما حصل مع "يم" وزوجها منذ أن كانا في الغوطة وانتقلا إلى دمشق فترة وجيزة خوفاً من الموت المحتوم، وصولاً إلى قرارهما بالهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، فتكون الحوارات في هذا الجزء بمنتهى الحساسية والصدق والألم، ومما جاء في قول الزوجة: (قد صار الوطن فندقاً وجبَ مغادرته..)، وقول الزوج: (صرنا أمة الموت أفجعها والفقر أوجعها والهمّ أنحلَها والغمُّ أضناها)
خرجا من منزلهما تاركان كل الماضي خلفهما بكلّ ما فيه، على أن ما مرّ معهما أو ما سيمرّ في الفترة القادمة هو طلق ولادة جديدة ونجاة حسب اعتقادهما.
يسرد الكاتب تفاصيل عميقة مؤثّرة ومواقف كثيرة تتعرض لها "يم" وزوجها مع مجموعة أخرى من الناس يرافقونهم درب الهجرة المضني، مناطق حدودية عديدة متصارعة القوى وزورق يخوض عباب البحر محمّلاً بخطر موت من هم عليه، وقاطعو طرق ونشّالون... الخ، يُقتل زوجها أثناء الرحلة دون أن تستطيع أن تفعل له شيئاً تركته جثّةً لا يمكن الاقتراب منها، إذ أن الهروب هو النجاة الوحيدة لها ولمن معها آنذاك، وبعد وصولهم إلى ألمانيا وهم يلتقطون أنفاسهم الأخيرة يأتي هنا السؤال الصادم وغير المتوقع بالنسبة ليم أثناء المقابلة الشخصية من قبل المعنيين للاجئين: (هل تشعر أن هويتك الجنسية الداخلية لا تتناسب مع ما وسموك به عند الولادة؟) ويا له من سؤال حارق للاجىءٍ هارب من الموت؟!
يبدو أن الصراع الأكبر والحقيقي الذي دمّر "يم" قد بدأ بعد هذا السؤال، إذ أعادت شريط حياتها منذ الطفولة المبتورة والزواج القسري والحرب المفجعة..الخ، لتصل إلى رحلة جديدة في الاكتشاف، ما هي هويتها الجنسية؟ فهي قضت طفولتها كفتاة وبلغت كذكر وتعيش فكر وسلوك الرجال رغم أنها كانت امرأة في مجتمع شرقيّ له خطوطه الحمراء الدينيّة والأخلاقية التي ترفض وتستهجن المضطربين جنسياً، يوقظ الكاتب في هذا الجزء من الرواية أعتى التساؤلات وأهمّها حول موضوع (اضطراب الهوية الجنسية) وأسبابه وصعوباته وتحدّياته، فهل من الممكن أن يكون هناك بدائل لعملية التحول الجنسي؟ وهل من الممكن الانفتاح على قضية التحول الجنسي بشكل مدروس جداً دون الحاجة إلى تسويق ذلك؟ وكيف يمكننا ضمان أن قرارات هذا التحول لا تؤثّر سلباً على الأفراد والمجتمعات؟ وما هي نهاية هذه الحالات؟ وغيرها الكثير من الأسئلة.
قد لا يعيش "المتحولون جنسياً" و "مجتمع الميم" كما يقولون عنه نزاعات نفسية وفصام وألم في المجتمعات الأوروبية إلا أنه لدينا يعيش الكثير من هذه الصراعات، فما بالكم عندما ينتقل من بلد عربيّ ملتزم ومؤطّر إلى بلد منفتح ولا يلتزم بهذه الأفكار!؟ نعم لقد عانت بطلة الرواية من صراعات مؤلمة تحدّث عن تفاصيلها الكاتب بمشهدية عالية، وبشرح علمي دقيق كان واضحاً فيه أن الكاتب الطبيب يجسّد مهنيّته خلالها وعلى سبيل المثال يكتب على لسان "سامي" صديق "يم" خلال رحلتها في ألمانيا: (قرأت دراسة تقول أن ٧٠%_٨٠% من الأطفال الذين اختبروا شعوراً باضطراب الهوية الجنسية ولم يتم علاجهم طبيّاً ولا جراحيّاً قد فقدوا هذا الشعور مع الزمن ما يعني أن مشكلتهم كانت أمراً طارئاً يستوجب العلاج والتعامل معه كما يتم التعامل مع أي مرض نفسي أو اضطراب ذهني... الخ).
استخدم الكاتب أماكن وأحداث حقيقية ودقيقة ووظفّها داخل الرواية بسلاسة، فقد ذكر جبال الكاربات التي تقع في جنوب شرقي أوروبا الوسطى، وعاد إلى عام ٢٠١٦ حين طرحت شركة سياحية مسابقة ترويجية لاختيار شخصين يقيمان خلال الليل في قلعة دراكولا، واستعان بوثائق ومراجع ودراسات منشورة سابقاً أيضاً مثل ما كتبه عن الغوطة من كتاب عجائب الدنيا البلدان لسراج الدين بن وردي: (الغوطة هي الكورة التي قصبتها دمشق، وهي كثير المياه، نضرة الأشجار، متجاوبة الأطيار، مؤنّقة الأزهار، ملتفّة الأغصان، خضرة الجنان.... الخ)، وما ذكره عن أول عائلة متحوّلة جنسياً في بريطانيا عن جريدة المصري اليوم بعام ٢٠١٩ وغير ذلك العديد من المصادر الأخرى، كذلك كان من اللافت استجلابه لفكرة من رواية المسخ الشهيرة لفرانز كافكا وتأثير والده السلبي عليه حيث كتب في جزء من روايته: (هكذا يمكن أن يفسد الأب حياة ابنه وهو الذي يملك إكسيرها)، وكل هذه المعالجة الفنية للأحداث الحقيقية تجعل الرواية تلامس الروح والدواخل الإنسانية.
اعتقد أنه لو استطاع الكاتب أن يخفف من بعض الشروحات العلمية التي استفاض بها في بعض الحوارات الموجودة في الرواية لكانت أكثر قرباً من الشريحة الأوسع للقرّاء الذين قد لايكترثون بتفاصيل الحالة الطبيّة وتشخيصها بقدر ما يهمهم الحالة الدرامية والعاطفية في ذروة الأحداث، كما أرى أن هذه الرواية مؤهلة بشكل كبير أن تتحول إلى عمل درامي مؤثر وله رسائل هادفة تخدم المجتمع، وتعطينا درساً مشبعاً بالتعاطف والتقبل والإنسانية في الحياة.
في الوقت الذي تظن" يم" أنها انتقلت إلى رحلة النضال والتحرر من أجل العيش الحقيقي تكتشف أنها تحولت إلى ذكر تشظّى تماماً وتاه عن دنياه واختار الانتحار، وقد تبدو هذه النهاية منطقيّة ومتوقعة إلا أنها مؤلمة وتثير التعاطف نحو هذ الحالات المضطربة، وإن السطور الأخيرة لهذه الرواية العميقة تشعل في النفوس الأنا الأعلى الذي يتسامى فيها الإنسان باتجاه التساؤلات الوجدانية الأزليّة إذ نضعها أنا والكاتب نصب أعينكم علّها تجد الإجابة، أين أنا من السعادة والندم والحنين؟ هل وجدت السلام؟ هل وجدت الحب؟ هل وجدت المعنى والغاية التي بحثت عنها؟