الأحد 15 يونيو 2025 02:31 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د.نهال أحمد يوسف تكتب: صرخات في وادي الصمت

د.نهال أحمد يوسف
د.نهال أحمد يوسف

في قلب كل مجتمع، في شرايين كل أمة، تتسرب آفة خبيثة، صامتة ولكنها فتاكة، إنها اللامبالاة، الداء الذي يفتك بجودة حياتنا ويُقوِّض أركان وجودنا الإنساني.

تخيلوا معايا، لو إننا ماشيين في جنازة مَهيبة، جنازة كوكبنا الأزرق، والأغلبية صامتون، لاهون، غير مكترثين، بينما قلة تحاول جاهدة أن تصرخ، أن تستنهض الضمائر، لكن صرخاتهم تضيع في صدى اللامبالاة المُطبق على الجميع. دي مش قصة خيالية، بل واقع نعيشه كل يوم، حين نرى الكوارث تتوالى، والظلم ينتشر، وحقوق الإنسان تُنتهك، وللأسف، نختار أن ندير ظهورنا، أن نغلق آذاننا، أن نختبئ في فقاعاتنا الصغيرة، متخيلين أننا بذلك
نحمي أنفسنا، ولكننا في الحقيقة نقتل إنسانيتنا.

اللامبالاة، مش مجرد غياب الاهتمام، إنما وحش متعدد الرؤوس، يتغذى على العجز الذي يورثه الاغتراب الذي يفرضه نمط الحياة الحديث، وتَبَلُّد الحس الذي تكرسه وسائل الإعلام بوابل صور العنف والموت والدمار. هذا الوحش يسرق منا قدرتنا على التعاطف، يَشلُّ إرادتنا الحرة، يحولنا إلى كائنات مُستهلكِة، تائهة، لا هم لها إلا إشباع غرائزها وشهواتها، تاركة العالم يحترق من حولها، والأمثلة كثيرة.

قضية التغير المناخي، هذا التنين الذي ينفث نيرانه في كل مكان، يذيب الجليد القطبي، يُغرق المدن الساحلية، ينشر الجفاف والتصحر، يقلب موازين الطبيعة، ويهدد بفناء الحياة على كوكبنا. ورغم كل هذه التحذيرات الصارخة، ورغم كل هذه الكوارث المتتالية، نجد أن الكثيرين لا يزالون يعيشون في غفلة، غير مكترثين، غير مستعدين للتغيير، مبررين تقاعسهم بحجج واهية، من قبيل "مش مشكلتي أنا لوحدي" أو "الحكومة هي المسؤولة" أو "مفيش حاجة في إيدي أعملها".

التفكير ده، هو عين اللامبالاة، وهو الخطر الحقيقي اللي بيهدد وجودنا. بيرسّخ فكرة العجز، ويقضي على أي أمل في التغيير، ويجعلنا شركاء في الجريمة، جريمة تدمير كوكبنا وتدمير مستقبلنا.

لكن، هل قدرنا أن نكون كده، بالشكل ده؟ هل إحنا فعلاً عاجزون عن تغيير الواقع؟ بالطبع لا. الإنسان كائن حر، كائن مُبدع، كائن قادر على التغيير، والتاريخ مليء بالأمثلة الملهمة لأفراد وجماعات قدروا يصنعوا فرق حقيقي، ويغيروا مجرى التاريخ بإرادتهم الصلبة وعملهم الدؤوب. الإنسان فعلاً قادر على أن يتغلب على اللامبالاة، وأن يصنع المعجزات حين يؤمن بقضيته ويُحارب من أجلها.
إذن، إيه اللي نقدر نعمله؟ إزاي نقدر نتغلب على اللامبالاة التي تسكننا؟ إزاي نستعيد إنسانيتنا المسلوبة؟ الجواب بسيط ومعقد في الوقت ذاته: أن نستيقظ.

أن نستيقظ من سُباتنا العميق، ونفتح أعيننا على الحقائق المرة التي تحيط بنا، وأن ندرك أننا مش مجرد أرقام في إحصائية، أو مجرد مُستهلكين في سوق كبير، بل إحنا كائنات حية، كائنات مُفكرة، كائنات مسؤولة عن مصيرها ومصير كوكبها. أن نستيقظ يعني نغير طريقة تفكيرنا، و نؤمن بأن صوتنا مسموع، وأن أفعالنا الصغيرة يمكن أن تحدث فرقاً كبيراً، وأن نتواصل مع الآخرين، وأن نتشارك همومنا وآمالنا، وأن ننضم إلى الحركات والمنظمات التي تناضل من أجل عالم أفضل، وأن نضغط على الحكومات والشركات لتغيير سياساتها، وأن نتبنى أساليب حياة مستدامة، وأن نربي أطفالنا على قيم العدل والحرية والمسؤولية.

أن نستيقظ يعني أن نختار الحياة على الموت، وأن نختار الأمل على اليأس، وأن نختار العمل على اللامبالاة. فلنستيقظ، ونبدأ التغيير من أنفسنا، من بيوتنا، من شوارعنا، من مدننا، من عالمنا. والوقت أصبح سراب، والكوكب يُنادينا، والمستقبل أمام أعيننا.

3838ba2dc3f1.jpg
د.نهال أحمد يوسف صرخات في وادي الصمت الجارديان المصرية