محمد سعد عبداللطيف يكتب : يوميات كاتب في الأرياف غريب في الديار,,!!


(عن قريتنا: تلبانة، الذاكرة التي لا تنام)
في كل مرة أعود فيها إلى قريتي، أشعر أن الزمن يسبقني بخطوات، ويترك لي الفُتات. أبحث عن وجوهٍ ألفتها، عن ظلالٍ مرَّت بي ذات مساء، عن رائحة التراب حين يُروى بماء الترعة، عن دفء الحكايات التي كانت تُروى على المصاطب بعد غروب الشمس.
هذه اليوميات ليست مجرد نصوص عن الريف، بل محاولات لالتقاط ما تبقى من أثر الروح في زوايا تنكرت لملامحها، ومقاومة لنسيانٍ يتسلل بهدوء، مثل النمل إلى جدران الذاكرة. أكتبها وأنا أحمل على كتفيّ عبء الحنين، وأسير بخطى مترددة نحو أماكن كانت في يومٍ ما موطن القلب.
أسير في طرقات قريتي وكأنني مارٌّ بها لأول مرة. كل شيء يبدو مألوفًا وغريبًا في آنٍ واحد. الكلاب تعوي من خلف الأسوار المهملة، وصوت البوم يخرق سكون الليل مثل نداء من عالم آخر. الشوارع ساكنة، كأن الزمن فيها توقَّف عن التنفُّس، وحدها الذاكرة تمشي معي، تنفض عن كتفيّ غبار الغربة، وتفتح دفاترها الصفراء في رأسي.
قريتنا تلبانة لم تعد كما كانت. الترعة التي كنا نغتسل فيها من حرارة الظهيرة، صارت شاهدة على تبدُّل الأيام، تفيض أحيانًا، لكنها لا تُغني ولا تُسقي سوى أطياف من عبروا ذات زمن. اليمام هجر أعشاشه، والعصافير تُغرِّد بخوف، تتشبث بأسلاك أعمدة الكهرباء وكأنها تتشبث بالنجاة.
الضجيج يعلو، لكنه لا يشبه ضجيج الأمس. لا لعب صغار، ولا ضحك عجائز أمام البيوت الطينية. كل شيء يبدو أكثر صمتًا رغم الضوضاء. أهرب إلى زقاقٍ قديم، أبحث عن شيء يشبهني. لعلِّي أشم رائحة دكان أبو عوض، تلك الرائحة التي كانت تملأ المكان بالنعناع والقرنفل والحكايات. أو ربما أطمئن إذا لمحت نور "محل عم توفيق"، الذي كان يسهر وحده في طرف القرية، كحارسٍ للطمأنينة.
أمشي، والكلاب تعوي من جديد، لكني لا أرتجف. ربما لأنني اعتدت هذا الشعور، أو لأن القلب صار أكثر صلابة من أن ينهار، وأرق من أن يتحمَّل. أمشي وأنا أستعيد ملامح من رحلوا، وأسماء من اختفوا، وصوت أمي تناديني وقت العشاء.
الغربة ليست في المدن البعيدة فقط، بل في القرية التي كانت وطنًا، ثم عادت لتكون مجرد محطة ذكرى. أستمر في السير، وأحاول أن أزرع طيفًا لي في كل زاوية، لعلِّي حين أعود مرة أخرى، أجد شيئًا مني ما زال باقٍ هناك.,,!!
محمد سعد عبد اللطيف – كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية,,!!
[email protected]