الخميس 22 مايو 2025 08:54 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. نهال أحمد يوسف تكتب : مراية الروح الزائفة

د. نهال أحمد يوسف
د. نهال أحمد يوسف

أثناء متابعتي لإحدى حلقات برنامج "صاحبة السعادة"، استوقفتني عبارة الفنانة القديرة إسعاد يونس وهي تصف الممثلة الأمريكية ساندرا بولوك بأنها من نوعية الفنانين الذين يتميزيون بأن "شخصيته في وشه". تحمل هذه العبارة دلالات عميقة تتجاوز الوصف الشكلي، لتلامس جوهر العلاقة الحميمة بين المظهر الخارجي والجوهر الداخلي للإنسان. إنها تشير إلى أن الملامح الطبيعية ليست مجرد سمات بيولوجية عشوائية، بل هي بمثابة لوحة فنية حية، نُقشت عليها آثار الزمن، وتفاعلات الروح، وتعبيرات التجارب الحياتية المختلفة. الوجه في هذه الحالة يصبح بمثابة سجل مرئي للشخصية، يحمل في طياته حكايات الفرح والحزن، الدهشة والتفكير، القوة والضعف.

فكر في التجاعيد الرقيقة حول العينين، التي قد تروي قصص ليالٍ سهرت في التأمل أو الضحك. أو نظرة العينين، التي يمكن أن تعكس حدة الذكاء، الخير أو الشر. حتى شكل الأنف أو انحناءة الشفاه قد تحمل بصمات وراثية مرتبطة بسمات شخصية معينة تُميز العائلات والأجيال. هذه الملامح الطبيعية، بتفردها واختلافها، تشكل جزءاً أصيلاً من هوية الفرد، وتميزه عن غيره بطريقة لا يمكن للجمال المصطنع، جمال الفيلر والبوتوكس، بتنميطه وتوحيده، أن يحاكيها.

إلا أن هذه الصورة البديعة تتصادم مع واقع متزايد الانتشار في مجتمعنا العربي والمصري مؤخراً، وهو "تريند" الجمال المصطنع، جمال الزخرفة الزائفة. لم يعد الأمر مجرد رغبة في تحسين الشكل بإخفاء بعض العيوب، بل تحول إلى هوس بتغيير الملامح الأصلية بشكل جذري، عبر عمليات التجميل والحقن بأنواعها المختلفة، وصولاً إلى تبني ملامح نمطية موحدة تخفي وراءها التنوع والاختلاف الفردي. هذه الظاهرة تستدعي تحليلاً سوسيولوجياً معمقاً لفهم دوافعها وتأثيراتها على الفرد والمجتمع.

من منظور نظري اجتماعي، يمكن تفسير هذا التريند من خلال عدة زوايا. أولاً، يمكن ربطه بنظرية التفاعل الرمزي. فالجمال المصطنع يمثل "رمزاً" للجاذبية والنجاح الاجتماعي في بعض السياقات المعاصرة. يتم تداول صور ومقاطع فيديو لأشخاص يتمتعون بهذه الملامح "المثالية" على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما يخلق تصوراً بأن هذا النوع من الجمال هو المعيار والمطلب لتحقيق القبول والتقدير. بالتالي، يسعى الأفراد، خاصة الشباب، إلى تبني هذه الرموز لتحسين صورتهم الذاتية ومكانتهم الاجتماعية في نظر الآخرين، متناسين أنهم بذلك قد يمحون جزءًا من "الرمز" الأصيل الذي يميزهم.

ثانياً، يمكن النظر إلى هذه الظاهرة من خلال عدسة نظرية المقارنة الاجتماعية. تعمل وسائل التواصل الاجتماعي كأداة قوية للمقارنة المستمرة بين الأفراد. يتم عرض صور "مثالية" ومُنمَّقة لأشخاص خضعوا لعمليات تجميل، مما يخلق شعوراً بالنقص وعدم الرضا لدى الآخرين بملامحهم الطبيعية. هذه المقارنة تدفع الأفراد إلى السعي نحو تقليد هذه الصور النمطية، بهدف تضييق الفجوة المُتصورة بينهم وبين "المثل الأعلى" للجمال، دون إدراك أنهم في خضم هذا السعي يفقدون جزءاً من فرادتهم التي تنعكس في ملامحهم.

ثالثاً، يمكن تحليل هذه الظاهرة في سياق نظرية النسق العالمي. فالعولمة والانفتاح على ثقافات أخرى، خاصة الغربية، قد ساهم في ترويج معايير جمالية محددة غالباً ما تركز على ملامح معينة. هذه المعايير يتم استهلاكها وتقليدها في المجتمعات المحلية، مما يؤدي إلى تهميش وربما ازدراء أشكال الجمال المحلية والأكثر تنوعاً، وبالتالي إضعاف الاعتزاز بالملامح التي قد تحمل في طياتها تاريخاً وهوية ثقافية.

إن التوجه نحو جمال الزخرفة الزائفة يحمل في طياته مخاطر عديدة. على المستوى الفردي، قد يؤدي إلى فقدان الثقة بالنفس الحقيقية والاعتماد المفرط على المظاهر الخارجية. كما يمكن أن يخلق حالة من عدم الرضا الدائم والسعي المستمر لإجراء المزيد من التعديلات، في حلقة مفرغة لا تنتهي. والأخطر من ذلك هو تغريب الذات عن ملامحها الأصلية، وفقدان ذلك الارتباط العميق بين الداخل والخارج، بين الشخصية وتعبيرها المرئي. عندما يصبح الجميع متشابهين في المظهر، يصبح من الصعب قراءة "كتاب الوجه" وفهم تلك التفاصيل الدقيقة التي تشكل جوهر كل إنسان.

ويأتي السؤال كيف يمكن أن نحتفظ بـ "شخصياتنا في وشوشنا" في مواجهة هذا التيار الجارف؟ الإجابة تكمن في تعزيز الوعي بأهمية الجمال الطبيعي وتقدير التنوع والاختلاف. يجب أن نركز على بناء الثقة بالنفس من الداخل، وتعزيز قيم الاحترام والقبول للذات وللآخرين بغض النظر عن المظهر الخارجي. كما أن للمؤسسات الإعلامية والتعليمية دوراً هاماً في تقديم نماذج إيجابية ومتنوعة للجمال، وتسليط الضوء على قيمة الأصالة والتعبير الفردي. إن استعادة قيمة "الشخصية في الوجه" هي دعوة للاحتفاء بفرادتنا الإنسانية وجمالنا الطبيعي المتنوع، بدلاً من السعي نحو قناع موحد يخفي وراءه جوهرنا الحقيقي وتلك "القصة" الفريدة التي تحملها ملامحنا.

د. نهال أحمد يوسف م راية الروح الزائفة الجارديان المصرية