الأحد 15 يونيو 2025 03:15 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

شبراوى خاطر يكتب : سوف ننهض ولسوف نحيا...

الكاتب الكبير شبراوى خاطر
الكاتب الكبير شبراوى خاطر

عندما أستمع إلى أغنية فيروز (سوف أحيا) من كلمات الشاعر المصري المبدع "مرسي جميل عزيز" وهي تشدو:

لم لا أحيا وفي قلبى وفي عيني الحياه
سوف أحيا ..
يا رفيقى نحن من نور إلى نور مضينا
ومع النجم ذهـبنا ومع الشـــــمس أتينـا
أين ما يدعى ظلاماً يارفيق الليل أينـا
إن نـور الله في القلـــــب وهـذا ما أراه
سوف أحيا

هذه الأغنية أثارت في وضع هذا المقال، أريد به أن أستكمل حديثي عن النهضة المصرية، وأقدم تاريخ نهضة حدثت بالفعل، وسأقدم في الوقت ذاته حجة للأمل للتغلب على هذا اليأس المحيط، وقصدي هنا ان أشهد بقدرتنا على تحقيق النجاح، ومواصلة الحياة، على الرغم من مشاعر الاحباط والارتباك، والشك والريبة التي تعترينا في مواجهة عدو متربص، وشقيق سفيه متخاذل غافل أو متغافل، وعالم مشغول بصراع البقاء بلا مبرر منطقي.

لقد كان يحيا هنا شعب يكاد يصل تعداده إلى ثلاثة ملايين نسمة، لقرون عديدة يعيش حياة يخيّم عليها التخلف ويرزخ مستسلم تحت وطأة ثقافات غيبية، لا يعرف لنور العلم مصدر، تارك الحبل على الغارب لحفنة من المماليك يمتصون دمه بالتواطئ مع الباب العالي العثماني القابض على روحه ومقدراته ومصيره.

في ظل هذه الظروف، هبطت عليه حملة فرنسية بقيادة نابليون بونابرت عام ١٧٩٨، لتهز الحكم المملوكي، ولتفتح الباب لكي يتساقط بعض النور إيذاناً لمرحلة جديدة في عمر وطن ظل خاملاً لعدة قرون. وليظل الباب مفتوحاً ليخرج منه الفرنسيس كما دخلوا، وليدخل منه جندي ألباني كان في الأصل بائع تبغ يتيم جاء إلى مصر بالصدفة، أسمه "محمد علي" عام ١٨٠٥، ليحكم مصر ذات الملايين الثلاثة هو وأولاده وأحفاده يلتهمون خيراته وينهبوا زاده. ومع ذلك، كان ذو فضل لبقاء الباب على مصراعيه وليظل مفتوحاً، ليستقبل عدة موجات من النهضة، وكما قال الشاعر المصري العظيم أحمد رامي:
الموجه تجري ورا الموجه
عايزة تطولها تضمها وتشتكي حالها.
بل كانت تخرج الموجة من طلاب نور العلم لتأتينا بقبس منه وتعود لتشعل قلوب تواقة لإحياء أمجاد ماضي عريق تليد.

بدأت الموجة الأولى ذاهبة الى الغرب في اول بعثة تعليمية يرسلها "محمد علي الألباني" الى فرنسا، بعثة من شباب الطلاب، أبحرت لتتعرف على العلوم الحديثة وأفضل الأفكار.

في هذه البعثة، اختار فيها الشيخ "حسن العطار" تلميذه النجيب ابن الأزهر الشريف "رفاعة رافع الطهطاوي" لكي يرافق أول بعثة دراسية إلى باريس مع علي مبارك وغيرهم من الطلاب. وأوصاه بأن ينسخ ما فعلته البعثة العلمية الفرنسية في مجالادتها "وصف مصر"، ثم ترتد الموجة بعد سنوات قليلة الى الشاطئ المصري، ليعود "الطهطاوي" متأبطاً كتابه "تخليص الأبريز في تلخيص باريز" ومعه باقي البعثة لكي يبعثوا في مصر نهضتها الأولى، وعلى أيديهم يولد نجوم الأدب والفكر والثقافة مثل حسين المرصفي، وعلي مبارك، ومحمد عثمان جلال، ويعقوب صنوع، ومحمود سامي البارودي، وعبد الله النديم وابراهيم المويلحي، وابراهيم اليازجي، والشيخ محمد عبده، وهم مثّلوا الموجة التي قاومت الإحتلال البريطاني، وبدأنا نسمع عن الأديبة باحثة البادية "ملك حفني ناصف" والشاعرة "عائشة التيمورية"،.

ثم لحقتها الموجة الثانية والتي كانت أكثر عدداً وقوة وغزارة وعنفوان، استفادت من أفكار جمال الدين الافغاني عن الحرية والصحوة القومية فأيقظت مشاعر الوطنية في النفوس، وساندها محمد رشيد رضا وبزغ فيها نجوم مثل محمد المويلحي، والشيخ علي يوسف، وقاسم أمين، وأحمد زكي باشا، وأحمد شوقي، وأحمد تيمور، وأحمد لطفي السيد، وحافظ ابراهيم، ومصطفى كامل، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وهدى شعراوي، ومصطفى صادق الرافعي، وعبد القادر حمزة، وعلي الجارم، ومصطفى المراغي، وعبد العزيز البشري، ومي زيادة، وسلامة موسى، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، وأحمد أمين، وشبلي شميل، وجورجي زيدان، وعلي عبد الرازق، وأمين الخولي، وتوفيق الحكيم وعباس العقاد، وابراهيم ناجي، واحمد رامي، وروزا اليوسف، وعزيز اباظة ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم، ومعهم سيد درويش وبديع خيري ونجيب الريحاني وطلعت حرب وزكريا أحمد وغيرهم من مواليد ما قبل عام ١٩٠٠. ثم تلاهم وسار في ظلهم، من بعدهم، يحيي حقي، وزكي نجيب محمود، وكامل الشناوي، ونجيب محفوظ وأمين يوسف غراب، وصالح جودت، وعائشة عبد الرحمن، وأمينة السعيد، وعلي ومصطفى أمين، ويوسف السباعي ويوسف ادريس، وإحسان عبد القدوس، ومصطفى محمود ومعهم محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وأم كلثوم وزكي طليمات ومحمود مختار، وآخرون. نحتاج مجلدات لحصرهم.

تلك كانت بعض الاسماء التي شكلت موجهات النهضة، موجة إثر موجة، اذكرهم بالإسم لكي أبين كيف كان للنهضة رجال عاشوا للوطن، وكافحوا وصنعوا مجده وأثبتوا مجدهم.

هؤلاء كانوا يمثلون موجات متتالية لعصر النهضة والتي شهدت لحظات ضعف وفترات من الإحباطات وبعض من خيبة الأمل هنا وهناك، ولكن لا ننكر النجاحات التي وضعت مصر في بؤرة التأثير الناعم في محيطها العربي والإسلامي،

أجيال من جنود النهضة أسسوا المدارس، وأنشأوا المصانع، وأبدعوا فنون السينما والمسرح والشعر والموسيقى والأدب، وأسسوا نظام سياسي واقتصادي سبق كل دول المنطقة.

وإذا كان" رفاعة الطهطاوي" قائداً فتح لنا نافذة على الحضارة الفرنسية الحديثة نتج عنها انشاء المدارس والمعاهد والجامعات ومدارس تعليم المرأة وكلية الألسن للاهتمام بترجمة آداب العالم وكان دافعاً لتطوير الازهر الشريف كمنارة علمية اسلامية.

فإننا نواصل المناداة بلا يأس بضرورة مواصلة فتح نوافذ وابواب الفكر العلمي الحر الذي أدى إلى نهضة وتطور الغرب، وعدم السماح بالاكتفاء بالقشور والتظاهر بالتعلم، والكف عن تقييد الفكر وعدم الركون للسطحية واستبدال العقل بالنقل.

وبعد كل هذه الموجات والتي نراها على فترات متقطعة -كمن يكتب سطر ويترك سطر - قد يجعل من هدف النهضة الحضارية الشاملة أمر صعب المنال.

وإذا نظرنا للواقع الآن، نجد أن النظام التعليمي شكله جديد، مدارس ذات عمارة عظيمة تضاهي النظام الغربي وقد تتفوق عليه، ومعاهد منتشرة في كل مدينة، ومدارس للتعليم الفني والتجاري والصناعي والزراعي، وجامعات حكومية وأهلية وخاصة في كل محافظة وكل منطقة، ومناقشات لآلاف الرسائل العلمية، ودرجات علمية تُشترى أو تُمنح بثمن بخس. فتكون المخرجات عقول عقيمة، محتواها الفكري ضعيف وهزيل، يسير بنا إلى نظام (كأنه) ديموقراطي وليس ديموقراطي، بل أقرب إلى التمثيل. نجد وسائل إعلام وتثقيف وتنوير تحتاج إلى إعلام وتعليم وتثقيف وتنوير، اختلط فيها الحابل بالنابل ويتحكم فيها حفنة من الصنايعية المهرة بلا أدمغة، ينقصهم الفكر الاستراتيجي والمهنية العلمية والرؤية البعيدة المستنيرة. فما اسهل التزين بقشور الحضارة بعد أن نفرغها من مضمونها.

وسعياً نحو النهضة الشاملة، لا أقول أنه ينبغي أن يتم تعليم كل طوائف الشعب وبكامل أعداده، ولكن أقول أن النهضة التي نحلم بها تحتاج اولاً حاكم شجاع جسور لا يهاب الفكر الجديد المستنير وإن اختلف معه، ولا يخشى المستنيرين اصحاب الأفكار الجريئة ولو عارضته. وتحتاج من هذا الحاكم الشجاع أن يسمح لاصحاب العلم والخبرة والمهارة والقوة والأمانة أن يتخذوا مواقعهم لتوليد موجات متصلة ومتواصلة من التنويريين اصحاب الضمائر والرؤية الثاقبة للنهوض بهذا الوطن ولا يخشون في ذلك لومة لائم.

هذا ما نحتاجه، وهذا ما ينبغي لنا لكي لا نحتاج إلى أحد ولكي نحيا. ونبقى أحياء.
وفي النهاية... تحيا مصر عظيمة عزيزة قوية