شحاته زكريا يكتب : مصر.. حين تصنع الجغرافيا قدر أمة


ليست الوطنية كلمات تُلقى في الهواء ولا هي حماسة تُستثار على وقع الشعارات. الوطنية الحقّة تُبنى على وعي بالتاريخ وفهم للجغرافيا واستيعاب لدور يتجاوز حدود اللحظة إلى فضاء الرسالة الكبرى. ومصر بامتياز ليست وطنا كبقية الأوطان. إنها حالة فريدة في سجل الأمم ومفهوم مستقل في معاجم الجغرافيا والتاريخ والهوية.
لم تكن مصر يوما دولة طارئة نشأت من صراع قبائل أو طموح إمبراطور بل وجدت منذ فجر الإنسانية ككتلة حضارية متكاملة تتجلى فيها ملامح الدولة بمعناها الحديث حتى قبل أن يُصك هذا المعنى في قواميس السياسة. من النيل صعدت فكرة الاستقرار ومن ضفتيه نبت أول إدراك لمعنى الزمن، ولحتمية التنظيم، وضرورات العدل، وأهمية القانون.
إنها الأرض التي حفظت سر البقاء في محيط يتغير ويتقلب. فمنذ آلاف السنين لم تتبدل حدود مصر إلا قليلا ولم تنكسر روحها، رغم غزوات وغربان ومحن متلاحقة. وفي كل مرة كانت تنهض لا كمن يشفى من جرح ، بل كمن يُعيد صياغة نفسه بروح أصلب وكأن التحدي وقود البقاء وكأن الرسالة لم تكتمل بعد.
مصر لا تحتكر التاريخ لكنها تصنعه. ليس ادعاء ولا فخرا أجوف بل لأنها كانت دوما في موقع المُبادر لا التابع. قدمت للإنسانية ما يتجاوز المعمار والكتابة والطب ، إلى ما هو أعمق: فكرة الضمير. من هنا بزغ سؤال الخلود وتبلور مفهوم الحساب ، وتشكل وجدان الإنسان في علاقته بالكون والخالق والمصير.
ولعل أعظم ما يميز مصر أنها دولة تتجاوز لحظتها. مواقفها لا تُبنى على تقلبات المصالح ، بل على تراث من القيم وتقاليد من الفهم العميق لمسؤولية الكبار. لهذا لم تكن فلسطين يوما بالنسبة لها ورقة تفاوض ، ولا كانت أمنها القومي مسألة تُساوَم. هي تدفع بصمت فاتورة التاريخ والموقع والدور. وتُقاوِم بإصرار كل محاولات التشويه والتقزيم.
مصر التي تكتب اسمها في الكتب السماوية.هي ذاتها التي تكتب حاضرها في سجلات الأمم بالأفعال لا الأقوال. مصر التي تجلت عليها الأقدار هي ذاتها التي تتجلى اليوم في المواقف وفي كل مرة تسقط فيها المنطقة في فوضى تكون القاهرة نقطة الاتزان وبوصلة الاستقرار.
نعم مصر ليست مجرد وطن. إنها فكرة. والفكرة التي تعبر الزمن لا تُقاس بحجم اقتصادها فقط ، ولا تُحاكم على وقع الأزمات. بل تُقرأ في سياقها الحضاري.وفي دورها الذي لا يتخلى وفي قدرتها الدائمة على إعادة تعريف ذاتها وفق ضرورات اللحظة دون أن تتخلى عن أصلها الراسخ.