الخميس 29 مايو 2025 12:58 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : الخوف المقدس وكهنة الموساد من برلين إلى دمشق

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

في الأرشيف الغربي المظلم، حيث يختلط رماد الحرب العالمية الثانية بأنفاس الخوف والفلسفة القومية المتطرفة، ولدت أولى بذور الكهانة الحديثة. لكنها لم تكن كهانة دينية في معابد القدس القديمة، بل كهانة استخبارية تُمارَس ببرودة عقل لا يعرف الرحمة، يتنقل بين دوائر صنع القرار وممرات الاستجواب، بين الحيلة والمعلومة، بين القتل الهادئ والانكشاف المُبرمج. تلك الكهانة لم تلبس عباءة توراتية بقدر ما لبست نظارة سوداء، وتخفت داخل مكاتب صغيرة تشبه قاعات الاعتراف في الكنائس المظلمة، لكن الاعتراف هنا كان يُنتزع لا يُقدَّم.

من برلين النازية خرج بعض من أكثر العقول استخبارًا وتخطيطًا، ليس فقط ألمانًا بل يهودًا شرقيين وأوروبيين كانوا ضحايا الأمس وشياطين الغد. وجد هؤلاء في مشروع "الدولة اليهودية" على أرض فلسطين فرصة تاريخية للانتقام من العالم، ليس فقط من أعدائهم، بل من كل من يمكن أن يقف في طريق "الخوف المقدس" الذي أرادوا له أن يتحول إلى دين جديد. لم يكن الأمر مجرد بناء دولة، بل كان تأسيسًا لمعبد استخباري عالمي، قاعدته "الموساد"، وكهنته رجال لا يظهرون إلا عندما تسقط دولة أو ينهار نظام.

كان أول ما فعله هؤلاء الكهنة هو زرع قواعد الطاعة داخل الجهاز. لم يكن مطلوبًا من رجل الموساد أن يكون وطنيًا، بل أن يكون مطلق الولاء للعقيدة الأمنية التي ترى أن البقاء مرهون بالضربة الأولى. وهكذا نشأت فلسفة "الموت الاستباقي"، لا كحرب مفتوحة، بل كعمليات دقيقة تنفذ بوجه بارد وأعصاب حديدية، قد تستغرق أشهرًا في التخطيط، وتحدث في لحظة، ثم تختفي آثارها بلا ضجيج.

انتقل الكهنة من برلين إلى بغداد، من فيينا إلى بيروت، لكن أعقد معابدهم الاستخبارية تأسست في دمشق. دمشق التي لم تُهزم بسهولة، ولم تفتح أبوابها للخداع كما فعلت عواصم أخرى، احتاجت إلى نوع خاص من السحر المخابراتي، فكان لا بد من إرسال "كاهن علني" إلى قلب المدينة. لم يكن إيلي كوهين مجرد جاسوس أو عميل مزدوج، بل كان مشروعًا استخباراتيًا عقائديًا متكاملًا، جاء ليؤسس مرحلة جديدة: مرحلة التلبس الكامل بالهوية المزيفة.

دخل كوهين دمشق كما يدخل الكاهن قدس الأقداس، ليس بوجه يطلب اللجوء، بل بهوية تخترق وتُدهش وتُبهر. لم يكن مجرد رجل أعمال، بل حاملًا لهالة من الكاريزما المقصودة، التي تعيد تشكيل نظرة الناس له، وتجعل من مجرد لقائه أمرًا مُحببًا، حتى لكبار الضباط والمسؤولين. أصبح صوته مألوفًا في المجالس المغلقة، وصمته مرعبًا في الاجتماعات الحاسمة، وكأنّه – على حد وصف بعض التقارير – كان يسمع أكثر مما يقول، ويقول ما يكفي ليفتح أمامه أبواب الجحيم.

لكن الموساد لم يكن يعتمد على كوهين وحده، بل كانت دمشق ساحة اختبار لفرضية استخبارية تُدرس حتى اليوم: كيف يمكن لهيكل استخباري أن يُغير مصير جبهة عسكرية دون أن يطلق رصاصة؟ كان المطلوب هو السيطرة على "الرؤية"، أن يعرف الموساد كيف يفكر السوريون، لا فقط ما يخططون له. ولهذا لم تكن تقارير كوهين عن مواقع المدفعية أو الجبهة هي الأكثر أهمية، بل تقاريره النفسية عن مزاج الضباط، وصراعاتهم الداخلية، ونقاط ضعفهم الشخصية. كان جهاز الموساد يحلل الإنسان قبل أن يحلل السلاح، ويدرس العلاقات الاجتماعية كما يدرس الخرائط العسكرية.

ومن خلال تلك الكهانة العصرية، استطاعوا أن يُسقطوا الجولان بعد عامين فقط من إعدام كوهين، في 1967، في ضربة اعتمدت على دقة المعلومة لا كثافة النيران. لم تكن الحرب تقليدية، بل كانت ذروة عملية نفسية واستخباراتية بدأت قبلها بسنوات. وحين انهارت الجبهة السورية، لم يكن المشهد العسكري مفاجئًا بقدر ما كان تتويجًا لطقوس طويلة من التسلل الناعم إلى العقل.

لكن كهنة الموساد لم يتوقفوا عند دمشق. فقد فهموا أن الكاهن الحقيقي لا ينتظر الحرب بل يخلقها، ولا يقف على أطلال نظام بل يدفع الشعوب لتمزيق نفسها. وهكذا تطور الجهاز ليصبح مصنعًا متكاملاً لإنتاج الفوضى، لا عبر الجواسيس فحسب، بل عبر الإعلام، والثقافة، والاقتصاد، والبرامج التي تُبث عبر الأقمار الصناعية، والتطبيقات التي تسرق أكثر من مجرد بيانات. الكاهن الحديث لم يعد يختبئ، بل يظهر على الشاشة، يصنع نجومًا وهميين، ويقتل الحقيقية بهدوء.

ووسط كل هذا، بقي العرب أسرى لنموذج كوهين، وكأن الموساد توقف عند تلك اللحظة. لكن الحقيقة أن كهنة الموساد تطوروا، في حين توقفنا نحن عند حدود الخوف والتقليد. إننا لا نواجه جهازًا فقط، بل منظومة إيمان استخباري زرعت داخلها أن وجودها مرهون بتفكيك الآخر. إنها كهانة لا تُشبه أحدًا، بدأت في برلين ذات يوم، ولم تنتهِ عند أسوار دمشق.

الخوف المقدس وكهنة الموساد من برلين إلى دمشق حسين السمنودي الجارديان المصرية