السبت 31 مايو 2025 10:30 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. نهال أحمد يوسف تكتب : *تاريخ مصر الصامت*

د. نهال أحمد يوسف
د. نهال أحمد يوسف

تملك مصر إرثاً حضارياً عريقاً يمتد لآلاف السنين، يُبهر العالم بأسره، ومع ذلك، تواجه دائماً تحديات حاسمة في الدفاع عن هذا الإرث وتقديمه بفعالية على الساحة الدولية، خاصة في الفضاءات الإعلامية المؤثرة. ظهور الدكتور زاهي حواس مؤخراً في بودكاست جو روجان لم يكن مجرد خطأ فردي أو زلة عابرة، إنه كان بمثابة عرض صادم لخلل مؤسسي عميق في إدارة القوة الناعمة المصرية ودبلوماسيتها الثقافية.

القوة الناعمة هي قدرة الدولة على التأثير وجذب الآخرين من خلال الجاذبية الثقافية والقيم السياسية والسياسات الخارجية، حيث تتجلى قيمة الثقافة والتراث كأصول استراتيجية. عندما تُخفق دولة بحجم مصر في استثمار هذه الموارد بفاعلية، فإنها تفقد جزءاً كبيراً من نفوذها المعنوي وقدرتها على تشكيل التصورات العالمية عنها. هذا القصور يرتبط ارتباطاً وثيقاً بـنظرية التحكم في الخطاب والسردية، التي تؤكد أن الأمة التي لا تستطيع صياغة خطابها الخاص وحمايته وتصديره بفعالية، تصبح عرضة لتفسيرات الآخرين، التي غالباً ما تكون مشوهة أو تخدم أجندات مختلفة. فعندما لم يكن الخطاب التاريخي المصري جاهزاً للمواجهة في بودكاست روجان، سادت الخطابات البديلة والمشكوك فيها.

حادثة الدكتور حواس لم تكن مجرد حوار؛ كانت ساحة اختبار حقيقية للخطاب التاريخي المصري. لم يكن الأمر يتعلق بشخصية الدكتور حواس فحسب، ولكن برسالة أمة بأكملها كان يجب أن تُقدم كبعثة دبلوماسية ثقافية متكاملة. غراهام هانكوك، الذي وصفه حواس لاحقاً في مداخلته مع برنامج يحدث في مصر، كان عدوه في الفكر والنظرية فيما يتعلق بتاريخ مصر القديمة وبناء الأهرامات. وعلى حد قوله، تصالحا قريباً وهو من رشحه لفكرة الظهور في بودكاست جو رومان لتوضيح نظريته. أسئلة رومان الموجهة ببراعة وبقصد واضح لترويج نظرياته البديلة عن تاريخ الحضارات، دفعت حواس إلى مواجهة إعلامية افتقر فيها للعديد من مهارات الإقناع بالأدلة العلمية، بالإضافة لغياب الدعم المؤسسي. غياب المكتب الثقافي المصري، والسفارة المصرية والمستشار الإعلامي في الولايات المتحدة والإعداد الدقيق لهذا اللقاء، ترك حواس في مواجهة منفردة. بالإضافة لمشاكل لغة حواس الإنجليزية المتعثرة، ردوده الحاده، وغير القاطعة بالبرهان والدليل، وتقديم ذاته واهتمامه بالحديث عن نفسه وعلمه أمام الإرث الحضاري لمصر، والمظهر العام الذي امتاز بالتعالي غير المفهوم، وغير المبرر، كلها كانت عناصر خطاب غير مؤثر، وغير مقنع، وباتت تحجب الأهمية الحقيقية للإرث الحضاري لمصر. إن هذا القصور ليس عيباً شخصياً، إنما هو نتاج لغياب منظومة متكاملة لـ"التواصل الاستراتيجي" و "بناء الخطاب" على المستوى الدولي، وهي منظومة تفتقر بشكل واضح إلى التدريب المتقدم في فن الخطابة وبناء الخطاب، الضروريين لإيصال الرسالة بفعالية وإقناع.

الخسائر التي تكبدتها مصر تجاوزت بكثير مجرد السمعة الشخصية. إنها خسارة اقتصادية ومعنوية هائلة ذات تداعيات عالمية ومحلية عميقة. على الصعيد العالمي، كانت هناك خسارة اقتصادية مباشرة وغير مباشرة، فظهور على منصة يشاهدها مئات الملايين يمثل فرصة دعائية مجانية تقدر بعشرات الملايين من الدولارات. إهدار هذه الفرصة يعني ضياع احتمال استقطاب أعداد أكبر من السياح، والمستثمرين، والإعلاميين وغيرهم من المهتمين بالحضارة المصرية. هذا التفريط يعكس قصوراً في فهم قيمة "التأثير الثقافي" كأداة اقتصادية واستراتيجية بالغة الأهمية. كما أثر ذلك على تدهور الصورة الذهنية والتأثير، فغياب خطاب تاريخي قوي ومنظم يترك فراغاً يملؤه الآخرون. تظهر نتائج هذا القصور بشكل جلي في كيفية تصوير مصر في الإعلام الأمريكي، وخاصة في أفلام هوليوود. لطالما انحصرت صورة مصر في هذه الأعمال في قوالب نمطية ضيقة، مثل "لعنة الفراعنة" أو "المومياوات المتحركة"، أو تصويرها كخلفية غامضة لمغامرات أبطال غربيين. أفلام مثل سلسلة "المومياء" أو "الآلهة المصرية" غالباً ما تقدم صوراً مبسطة وتفسيرات خرافية لبناء الأهرامات، مما يفتقر إلى العمق التاريخي والثقافي.

يُمكن تحليل هذا التشويه الإعلامي من منظور الاستشراق، وهو مفهوم قدمه إدوارد سعيد، والذي يشير إلى الطريقة التي غالباً ما يصور بها الغرب "الشرق" من خلال عدسة من القوالب النمطية، الغرابة، والبدائية، بما يخدم أجندات الهيمنة الثقافية والسياسية. مصر، كجزء محوري من "الشرق"، غالباً ما تقع فريسة لهذه التصورات الاستشراقية، مما يحرمها من سرد قصتها بكرامة ودقة. بالإضافة إلى ذلك، التأطير الإعلامي السلبي حيث تقوم وسائل الإعلام بصياغة الواقع بطرق معينة تؤثر على إدراك الجمهور، عكس الحقيقة هو مايحدث في حالة مصر. عادة يتم تأطيرها إما كـ"وجهة سياحية غامضة" أو "نقطة ساخنة للنزاعات"، مما يطغى على تعقيدها الحضاري والاجتماعي. هذه الأطر الإعلامية السلبية أو المحدودة تعيق قدرة مصر على بناء صورة شاملة ومتوازنة.

على الصعيد المحلي، شعر المصريون أنفسهم بتأثيرات سلبية عميقة. كان هناك إحساس بخيبة الأمل والإحباط، إذ يرى المصريون في تاريخهم وحضارتهم مصدر فخر واعتزاز لا يضاهى. عندما يشاهدون مُمثل بلدهم، حتى لو كان عالماً مرموقاً، يتعثر في الدفاع عن هذا الإرث في محفل عالمي بهذه الأهمية، فإن ذلك يولد شعوراً عميقاً بخيبة الأمل والإحباط. كما اهتزت الثقة في القدرة على التمثيل، حيث يشعر المصريون بأنهم يمتلكون رسالة عالمية يجب أن تروى بأفضل شكل.

عدم القدرة على تقديم الخطاب التاريخي المصري بفاعلية يُثير تساؤلات حول كفاءة المؤسسات المعنية وقدرة الدولة على حماية صورتها وتراثها، مما يؤثر على معنوياتهم ويفاقم الإحساس بالفشل الجماعي. وأخيراً، تأثرت الهوية الوطنية، فصورة الأمة في الخارج جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية لأبنائها. عندما تتشوه هذه الصورة أو لا يُدافع عنها بقوة، يُمكن أن يؤثر ذلك سلباً على شعور المصريين بالفخر بتاريخهم وبلادهم، والذي قد يؤدي إلى شعور بالعجز والاستياء.

ليست القضية في خطأ حواس وحده، ولكن في مسؤولية جماعية تقع على عاتق الدولة ومؤسساتها وشعبها. إن امتلاك حضارة عظيمة يتطلب امتلاك خطاب تاريخي قوي وقادر على تمثيلها وحمايتها في عالم يتنافس فيه الجميع على بناء الخطابات. لقد حان الوقت لأن نُدرك أن "الدبلوماسية الثقافية" و "التحكم في الخطاب التاريخي" ليسا اختياراً، إنما ضرورة استراتيجية حتمية لضمان مكانة مصر الحضارية والاقتصادية في المستقبل. يجب على مصر أن تتبنى استراتيجية شاملة تشمل الاستثمار في كوادر مدربة على التواصل الدولي، وتطوير محتوى ثقافي جاذب يعكس تاريخها الغني وحاضرها المتنوع، وبناء جسور مع صناع المحتوى العالميين لتصحيح الصور النمطية، والعمل على استعادة القطع الأثرية المسروقة كجزء من استعادة هذا الخطاب. إنها معركة خطابية تستدعي جهداً مؤسسياً متضافراً لضمان ألا يبقى تاريخ مصر العظيم صامتاً.

د. نهال أحمد يوسف تاريخ مصر الصامت الجارديان المصرية