الإثنين 2 يونيو 2025 02:25 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

فنون وثقافة

د. علي جابر الطائي يكتب: النرفانا بين الفكر البشري والصراع في المسرح (الصوفية والمسرح أنموذجاً).

الجارديان المصرية

يتبادر في ذهن البعض أن قراءة الكتب في تخصص المسرح سيكون مفيداً للمشتغلين في الفنون فقط، والحقيقة عكس ذلك لسبب بسيط، هو أن المسرح لم يقف عند زاوية محددة من الحياة الإنسانية، إنما أحاط بكل زواياها، ومن المؤكد أن الدراما الناتجة من يوميات الكائن البشري هي أصل كل الفنون، وأن أبو الفنون هو المسرح، وعلى هذا فسنجد كل العلوم، وكل الأفكار، والمعتقدات معرضة للنقاش في المسرح، وأنموذجاً لهذا الطرح ما نوقش في الكتاب الأخير للدكتورة ( شيماء حسين طاهر)، والذي جاء بعنوان (الصوفية والمسرح)، والصادر هذا العام (2025م) عن مؤسسة دار الصادق الثقافية في العراق.
يتمحور كتاب الصوفية والمسرح حول المعتقدات الخاصة في تفسير علاقة النفس بالجسم، وقد ناقش الكتاب تلك العلاقة منذ أحس الإنسان بالألم فقرر أن يجد الخلاص، وأن فكرة الخلاص قديمة قدم الإنسان، وحول هذه الفكرة يتحدد معنى (النرفانا) وهي أن يفقد الإنسان الشعور بالألم عند لحظة انعتاق النفس من اتصالاتها بالجسم المادي للإنسان، أي أنها حالة الذوبان في الذات العليا، وأي زمن يخلو من هذا الفكرة ؟ يكاد الجواب يجمع على أن فكرة الخلاص من الألم متأصلة في تاريخ البشرية، كمن يذكر غريزة الرضاعة للأطفال حديثي الولادة، ولأن الألم والخلاص منه يرافقها ممارسات يقال أنها ترفع من شأن النفس فتجعلها تتخلى عن الجسم، فقد ظهرت مثل تلك الطقوس في مختلف الأديان سواء كانت أديان سماوية أو وضعية، وقد أطلق على ممارسيها أسم المتصوفة، والصوفية بهذا المعنى تتساوق مع حالة تظهر على سلوك بعض أفراد المجتمع، وهي لم تولد على يد أحد المسلمين ولا المسيح ولا اليهود أنما هي محاولة لبلوغ حالة الوجد في مختلف المعتقدات التي مرت على البشرية.
تعتمد الرؤية الصوفية المتأخرة على الحب الإلهي كحجر زاوية لبلوغ الذات العليا، وأن الخيال هو السبيل لأدراك الحقيقة الإلهية عن طريق الحدس، وفي هذه الرؤية يقترب التصوف من المسرح، لأن كليهما يجعل الخيال سبيلاً لبلوغ المراد، كما أن الصوفية والمسرح يلتقيان في أن الخيال له قسمان، أحدهما منفصل خاص بالحقائق، والثاني متصل خاص بالمشاعر الإنسانية وهو ما ندرك به فنون المسرح، وليس هناك اختلاف على أن العرض المسرح منذ نشأته إلى يومنا هذا لم يفارق حقيقة أن الممثل يعيش حالة من الانعتاق تجعله يخضع لخيال خاص، يسعى لبناء شخصية أخرى موازية لحقيقته، يغفل أو يتغافل المتلقي في لحظات كثيرة من العرض عن كونها شخصية مؤلفة من خيال كاتب النص، ولتأكيد ما ذهبت إليه المؤلفة في علاقة الصوفية بالمسرح فقد ضمنت الكتاب مجموعة من مناهج المخرجين وأساليبهم.
كان الاستعراض الأول في الكتاب لمنهج المخرج (آرتو) ومسرحه مسرح القسوة، مؤكدة أنه قد عمل في مسرحه على بلوغ حالة الوجد، وقد ينسجم هذا القول مع ما عاشه المخرج من آلام وأمراض جسمانية ونفسية، أراد دائماً خلاص نفسه منها، وقد أنعكس جزء منها على طروحاته المسرحية، ومن المخرجين الذين درس الكتاب عملهم هو المخرج (كروتوفسكي) ومسرحه الفقير، والذي تخلى في مسرحه عن كل شيء مبالغ فيه ويمكن التخلي عنه، كما هم المتصوفة يكتفون بمتاع يؤمن لهم الاستمرار على قيد الحياة لا أكثر، كما كان ممثل كروتوفسكي يأخذ من عناصر العرض ما يؤمن به ايصال الموضوع إلى الجمهور لا أكثر، كما أن الخيال كان أساس لبناء عرضه المسرحي، ثم تبع ذلك المخرج (بروك) فجعل من كل مكان مساحة للفعل المسرحي، وهذا في المقابل يتشارك مع فكرة التوحد والوجود التي نادت بها الصوفية، فكل مكان فيه فسحه يصلح أن يكون مسرحاً، وتلى ذلك في الكتاب دراسة طروحات المخرج (باربا) ومسرحه الأنثروبولوجي، وفي هذا المسرح عادات، وحركات، وطقوس أحاطت بفكر الشعوب المتنوع، وجعلت من المسرح حالة لإنتاج بيئة تكاد تكون روحانية.
ولتحقيق المؤلفة مقاصد كتابها فقد حددت فصلاً منه لقراءة وتحليل عروض مسرحية ترى أنها حققت متطلبات الصوفية في المسرح، وتلك العروض هي (سيدرا) من تأليف خزعل الماجد، وإخراج فاضل خليل، والعرض الثاني (طواسين) وهو من تأليف ابراهيم بن عمر، وإخراج حافظ خليفة، بينما كان العرض الثالث (نورية) وهو من تأليف وإخراج ليلى محمد، وفي هذه العروض ركزت المؤلفة على مطابقة عناصر العرض، ودلالاتها مع أفكار الصوفية، ومن ثم ما ظهر منها من تطبيق في مناهج المخرجين العالميين الذين تطرق لهم الكتاب، وفيما يلاحظ في الكتاب اختصاره الشديد وإيجازه لما يراد التركيز عليه من علاقة الصوفية والمسرح، إلا أن هذا الاختصار قد يصيب القارئ بالإحباط لعدم إيراد تفاصيل أكثر عن طروحات وأفكار الصوفية، كما أن كثرة المصطلحات المقترنة بالأفكار الصوفية وعدم إشباعها بسبب الاختصار، يدفع بالقارئ إلى البحث والاستزادة في كتب ومواقع أخرى، ويحتاج فيها إلى جهد إضافي كان من الممكن توفيره عليه، لو أن المؤلفة أفاضته في كتابها هذا، والذي بلا شك كتاب ينفع كل مهتماً في جانب الصوفية والمسرح.

76eeab137401.jpg
c5c06bf780cf.jpg