سعدنى السلامونى يكتب: نظارة نظر ونقطة واحدة


تبدأ حياتك من سن الخامسة إلى سن الأربعين. كل شيء حولك يكون طوعًا تحت أقدامك؛ أقدامك التي تخطف جسدك وتطير به كيف تشاء.
وكل شيء تشعر بطعمه وتتلذّذه: بداية من الأطعمة، إلى النقود، إلى جمال الطبيعة، وجمال الأهل، والأصدقاء، والعشيقة. كل شيء يفوق الجمال.
وعند سن الأربعين، فجأة، تبدأ حياتك في سحب نفسها شيئًا فشيئًا من تحت أقدامك، وتسير فوق رأسك. أي: هي التي تعيشك، وليس العكس. وتظهر لك الناس على حقيقتها، وتكتشف حينها أن معظم من حولك ما هم إلا أدوار: لا الأخ أخ، ولا الصديق صديق، ولا الجار جار، ولا العشيقة عشيقة.
وكل ما هو حقيقي في حياتك قد رحل، ولا يبقى منهم إلا المسخ.
وهنا تهرب في فزع إلى عزلتك، لتكون جزءًا من العزلة، والعزلة جزءًا منك.
وتتعامل مع البشر بحرص شديد، تحت حكمة: "إن لم تكن قد لُدغتَ من قبل عدة مرات، فسوف تُلدَغُ يقينًا."
وعند الخمسين، تهجم عليك الأمراض المزمنة الشهيرة التي تُسمّى: الضغط، والسكر، والسرطان، وانسداد الشريان التاجي.
وحين تدخل برواز الستين، لا تستطيع التحكم في جسدك. جسدك الذي فقد طعم كل شيء: الأحلام، والنقود، والأبناء، والزوجة.
تهرب إلى فيتامينات مصطنعة يُعلِنُ الجسم فُقدانها، ولا تكون بديلًا.
ونظرك الذي ضاع نصفه، وأخذ معه نصف الذاكرة، لم يَعُد ملكك.
وفجأة تستعين بطقم من الأسنان، وبنظارة؛ نظارةٍ تضيف إليك نظرًا جديدًا.
وتحاول أن تضع الإيميل والباسورد، لتهرب إلى عالم السوشيال ميديا الذي لا يحاسبك فيه أحد، لا مصريًا، ولا عربيًا، ولا عالميًا. وهو الحياة الثانية البديلة لك.
تضع الإيميل بنجاح، ولكن... تنسى نقطة من حروف الباسورد.
نقطة واحدة فقط تمنعك من دخول الحياة الثانية.
وهنا تدرك على الفور أن حياتك لا تساوي إلا نقطة.
حتى الحياة الثانية لا تساوي إلا نقطة.
نقطة واحدة هي بوابتك لحياة عالمية.
نقطة واحدة دونها، أنت في حكم الميت.
وقد تكون حياة الأموات أفضل من حياتك الآن، لأن ليس بها أشباه بشر تحولوا إلى مسخ، ولا أشباه أصدقاء، ولا أشباه أهل، ولا شبه عشيقة، ولا نظارة نظر، ولا نقطة تكون لك بوابة الحياة الثانية.
حينها تشعر، على الفور، أنك مجرد "أنت والعالم"... نقطة في نظارة نظر.