الثلاثاء 3 يونيو 2025 04:58 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. مندور عبد السلام فتح الله يكتب : مناهجنا.. والتعليم الدولى

   د. مندور عبد السلام فتح الله
د. مندور عبد السلام فتح الله

بمدرسة صعيدية، يرفع طفل يده ليسأل: "لماذا ندرس نهر الراين في ألمانيا بينما نهر النيل يمر تحت نافذتنا؟". هذا السؤال البسيط يعكس مشكلة عميقة في المناهج المصرية، حيث نجد انفصالاً واضحًا عن السياق المحلي، وجمودًا في مواجهة عالم يتغير باستمرار، إلى جانب معلمين يُطلب منهم تدريس مناهج لم يشاركوا في صياغتها. على مدى سنوات، ظلت الكتب المدرسية تُعامل كأنها نصوص لا تُمس، يتم تخفيفها أحيانًا بنسب مئوية أو ترقيعها بدمج سطحي للعلوم، بينما تظل المشكلات الأساسية – مثل المركزية المفرطة وغياب دور التلميذ في صناعة المعرفة – تتفاقم دون حل.
لكن الأمل موجود، وليس مجرد خيال. تجربة فنلندا تقترح فكرة بسيطة وملهمة: منح المدارس حرية تشكيل 30% من المنهج لربط الرياضيات، على سبيل المثال، بحساب تكاليف مشروع صغير في ريف الفيوم. وفي سنغافورة، لا يكتفون بحذف فقرات بل يدمجون تحديات نهر النيل والتراث الفرعوني في صلب المواد العلمية. أما الأردن، فتظهر لنا كيف يمكن لفيديو قصير مدته عشر دقائق على منصة رقمية، يتبعه نقاش تفاعلي حول تحلية المياه، أن يحدث تحولًا كبيرًا في التعليم. هذه الأمثلة لم تنتظر معجزات، بل صنعت التغيير بإرادة سياسية جعلت من التعليم استثمارًا وطنيًا وليس مجرد خدمة روتينية.
فكيف يمكننا تطبيق ذلك في مصر؟ الخطوة الأولى تكمن في اللامركزية الجريئة. لماذا لا تصمم مناهج الإسكندرية حول تراثها البحري، كدراسة تأثير البحر المتوسط على المناخ المحلي، بينما تركز الأقصر على مشاريع ترميم الآثار كجزء من دروس التاريخ؟ التجارب العالمية تؤكد أن تمكين المدارس من صياغة جزء من المنهج يعزز الهوية المحلية ويجدد الحماس للتعلم. على سبيل المثال، يمكن لمدارس الإسكندرية دمج دروس العلوم مع دراسة ملوحة البحر المتوسط، بينما تستخدم مدارس قنا نباتات الصحراء لتعليم الأحياء.
الخطوة التالية تتمثل في تمكين المعلمين. في اليابان، يخصصون يومًا شهريًا لمراقبة الزملاء في الفصول وتبادل الملاحظات بشكل تعاوني. أما في مصر، فالتدريبات غالبًا نظرية، ودليل المعلم نادر الوجود. يمكن تحويل المعلمين إلى مبدعين للمعرفة من خلال إنشاء "مجتمعات تعلم مهنية"، حيث يلتقون شهريًا لتبادل الخبرات وتصميم دروس مستوحاة من واقعهم المحلي. وإذا رُبطت ترقياتهم بتطوير مهاراتهم في هذه المجتمعات، فسيصبحون شركاء في بناء المنهج بدلاً من مجرد ناقلين له.
التكنولوجيا، رغم أهميتها، ما زالت بعيدة عن جوهر المنهج المصري. منصة "نور" الأردنية أثبتت أن المحتوى الرقمي لا يحتاج إلى أجهزة متطورة، بل إلى تصميم دروس باللهجة المصرية تحوّل حكايات "كليلة ودمنة" إلى ألعاب تفاعلية عن الأخلاق، أو تجعل حساب مساحة الهرم تحديًا رياضيًا ممتعًا. لكن 60% من مدارسنا تفتقر إلى الإنترنت السريع، والمنصات الحالية تقدم محتوى جافًا يشبه الكتب التقليدية. الحل يكمن في شراكات مع شركات المحمول لتوفير إنترنت مجاني في المناطق النائية، كما فعلت الأردن، مع تطوير "منصة رمسيس" لتصبح جسرًا بين التراث والعلوم الحديثة.
لكن هذه التغييرات تواجه عقبات. المركزية الشديدة في النظام التعليمي قد تعيق اللامركزية، خوفًا من فقدان السيطرة. نقص الموارد، مثل التكنولوجيا والإنترنت في القرى، يشكل تحديًا كبيرًا. كما أن المعلمين قد يحتاجون إلى تدريب مكثف، وقد يقاوم البعض التغيير بسبب اعتيادهم على الأساليب القديمة. لكن تجارب محلية تثبت أن الحل ممكن: في قرية "الحراجية" بقنا، صمم معلمون شباب منهجًا علميًا يعتمد على نباتات الصحراء، وحولوا ساحة المدرسة إلى معرض للتراث النوبي، مما قلل التسرب من التعليم بنسبة 40% في عام واحد. هذا يظهر أن الإرادة والإبداع يمكن أن يتغلبا على التحديات بدعم من الوزارة عبر التمويل والتدريب.
التحدي الأكبر يبقى في التمويل. بينما تخصص الدول المتقدمة 3% من ناتجها للتعليم والبحث، لا تتجاوز النسبة في مصر 1%. لكن نموذج "مؤسسة قطر" يقترح حلاً: إنشاء صندوق وطني للإصلاح التعليمي بالشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص، حيث تمول شركات السياحة مشاريع التراث التعليمي، وتدعم شركات التكنولوجيا البنية الرقمية، مما يوفر الموارد دون الاعتماد الكلي على الميزانية العامة.
في النهاية، إصلاح المناهج لا يتحقق بالترقيع، بل بثورة ثقافية تضع الطالب في المركز وتستلهم المعرفة من الواقع المحلي. يمكن للوزارة أن تبدأ بمشروع تجريبي في محافظة واحدة، تمنح فيه المدارس حرية تصميم 10% من المنهج، مع تدريب مكثف للمعلمين على دمج السياق المحلي. فنلندا لم تنجح بين ليلة وضحاها، بل بدأت بإيمان بأن التعليم رحلة اكتشاف وليس سباقًا للامتحانات. مصر تستطيع صياغة نموذجها الخاص، يمزج مرونة سنغافورة، وتشاركية فنلندا، وابتكار هونغ كونغ، إذا آمنت أن طفل الصعيد الذي يسأل عن النيل هو نقطة البداية للتغيير.

** مدير مركز البحوث التربوية السابق

د. مندور عبد السلام فتح الله مناهجنا.. والتعليم الدولى الجارديان المصرية