الثلاثاء 3 يونيو 2025 09:59 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : ترامب.. ”أنا المرسل من الله”

حسين السمنودى
حسين السمنودى

في خضم الجلبة السياسية والإعلامية، وسط صراع الأيديولوجيات ومطامع الزعامة، يخرج دونالد ترامب ليعلن، دون خجل أو تردد: "أنا المرسل من الله". ليست هذه جملة عرضية أو زلة لسان يمكن تجاوزها في سياق شعبوية معتادة، بل هي مفتاح لفهم عقلية تعتقد أن السلطة ليست تفويضًا ديمقراطيًا، بل اصطفاءً سماويًا. عقلية تتغذى على فكرة "الاستثنائية"، وتنسج حولها أساطير لا تهدف إلا إلى تسويق الزعيم باعتباره منقذًا لا مثيل له.

في التاريخ السياسي للولايات المتحدة، لم يجرؤ رئيس على الخوض بهذه الفجاجة في دائرة "الإلهام الإلهي"، إلا أن ترامب – الذي شذّ عن كثير من القواعد – قرر أن يتجاوز كل الخطوط، لا فقط ليحشد الناخبين، بل ليرسم لنفسه هالة من النبوة السياسية. هو لم يكتف بلقب الرئيس، بل أراد أن يكون "المخلّص"، ولو على جثث القيم والمؤسسات.

من المدهش أن جمهوره ابتلع هذه الفكرة، بل وكرّسها. فصُوِّر ترامب أحيانًا كموسى الجديد الذي سيقود أمريكا إلى أرض الميعاد، وأحيانًا كصخرة داود في وجه العماليق، وأحيانًا ثالثة كمسيح يُبعث من جديد لمواجهة "المؤامرة العالمية". هذا التقديس السياسي ليس إلا انعكاسًا لانهيار الوعي الجمعي، حين تتحول السياسة إلى دين، والزعيم إلى إله صغير على مسرح يعج بالخرافات.

لكن السؤال الصادم: هل يصدق ترامب نفسه؟ الإجابة الأخطر هي: نعم. فمن يتأمل خطاباته، وإشاراته المتكررة إلى "العناية الإلهية"، ونظرته لنفسه كأنه المنتظر، لا يمكنه إلا أن يستنتج أن الرجل لا يمارس دورًا بل يعيش قناعة. هو يؤمن بأنه مُرسل، ليس من حزب جمهوري أو تيار يميني، بل من قوى عليا اختارته ليهدم ويبني ويُطهر الأرض من "الأشرار" كما يراهم.

وهنا نصل إلى لبّ العبارة: "أنا المرسل من الله". فماذا كان يقصد ترامب تحديدًا حين أطلق هذه القنبلة أمام العالم؟

العبارة في ظاهرها تعبّر عن قناعة دينية، لكنها في جوهرها تحمل أكثر من رسالة:

أولًا، هي رسالة موجهة لقاعدته الدينية من الإنجيليين البيض، الذين يرون في دعم "إسرائيل" ورفض الإجهاض ومحاربة المثليين علامات على "الطهر الإيماني". ترامب أراد أن يقول لهم: "أنا نبيكم السياسي، وأنا من اختاره الرب ليحمل رايتكم".

ثانيًا، هي إعلان تحدٍ للمؤسسة السياسية والدستورية الأمريكية، وكأن لسان حاله يقول: "أنتم مجرد بشر، أما أنا فمكلف من الأعلى، ولا سلطان عليكم عليّ". هذه صيحة استعلاء تخلع رداء الديمقراطية، وترتدي عباءة المبعوث الإلهي.

ثالثًا، هي قفزة فوق المساءلة، فالمرسل من الله لا يُحاسب، بل يُتبع. بهذه العبارة، يقطع ترامب الطريق أمام النقاش المنطقي أو النقد الموضوعي. فكيف تحاكم رجلاً يعتبر نفسه فوق الجميع لأنه "مبعوث سماوي"؟

رابعًا، هي ضربة رمزية إلى خصومه السياسيين، وكأنهم بموجب هذا "التكليف الإلهي" مجرد أشرار يقفون ضد مشيئة الرب. وهنا يكمن الخطر الحقيقي، لأن السياسة تتحول إلى صراع بين الخير المطلق والشر المطلق، لا بين رؤى ومصالح وطنية مختلفة.

خامسًا، تفتح هذه العبارة الباب أمام عودة "الثيوقراطية السياسية"، لا فقط في أمريكا بل في أي مكان بالعالم، حيث قد يتجرأ أي زعيم آخر على تقليد ترامب والادعاء بأنه "مرسل من الله" ليبرر جرائمه أو يكرّس سلطانه.


ترامب، في هذا السياق، لم يعد مجرد رئيس سابق يطمح للعودة، بل بات رمزًا لنزعة خطيرة: "الشعبوية المؤلّهة"، حيث يلبس الطاغية قناع النبي، ويجد من يهلل له بإيمان أعمى، ويُشيَّد له مذبح سياسي على حساب العدالة والإنسانية.

ومن المأساة أن هذه الظاهرة ليست أمريكية فقط. هي عدوى تنتشر، حيثما وُجد زعيم يتمسح بالدين ليمرر أطماعه، ويطوّع الخطاب الإلهي لخدمة مشروعه الأرضي. لكن ترامب، بطريقته الصادمة، جعلها أكثر سفورًا، وأكثر تغوّلًا.

"أنا المرسل من الله" ليست مجرد عبارة، بل تحذير.. تحذير من زمن يتماهى فيه الدين مع السياسة، وتُرفع فيه الشعارات السماوية لتبرير الأرض المحروقة.

وفي النهاية، لا بد أن نعيد السؤال الذي أخاف البعض من طرحه: هل يمكن أن يكون الطغيان ملفوفًا بآيات، وتُمارس الكارثة باسم السماء؟ الجواب: نعم، حين تتحول السياسة إلى عقيدة، ويُستبدل المواطن بالمريد، والرئيس بالإله.

وما ترامب إلا جرس إنذار.. لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.