د. نهال أحمد يوسف تكتب : كتاتيب بلا هوية


تُشكّل المنظومة التعليمية في مصر اليوم مشهداً بالغ التعقيد، أشبه ما يكون بأوركسترا تعزف مقطوعات متعددة الإيقاعات، أو ربما نسيجاً يتكون من خيوط متباينة الألوان والخامات، لكنه يفتقر إلى صلة جامعة تنسج عناصره في كساء متماسك. فبين رحاب التعليم الدولي، وجدران المدارس المحلية، وخصوصية تعليم اللغات، وأصالة التعليم العربي، وعملية التعليم الفني، وصولاً إلى تشعب الجامعات بين الحكومية والأهلية والخاصة، يكمن تنوع شديد التعقيد يوشك أن يمزق نسيج الهوية القومية المصرية. هذا التعدد، وإن كان يحمل في طياته بذور فرصٍ ثمينة للقادرين على توفير تعليم متميز لأبنائهم، قد انقلب إلى نقمة تُهدد التجانس المجتمعي، وتُبقي على بعدٍ شاسع بين أجيالٍ نشأت في بيئات تعليمية متضاربة.
في قلب هذا التباين الصارخ، تُلقى على عاتق المواد القومية – اللغة العربية والدين والدراسات الاجتماعية – مسؤولية لم تعد تحتملها، فَجُعلت هي القاسم المشترك الوحيد الذي يُفترض أن يربط بين كل هذه المسارات التعليمية المختلفة. فهذا الواقع المرير يشهد على إخفاق ذريع في تطبيق هذه المواد. فكيف لنا أن نُصر على إلزام الجميع بمنهج قومي واحد، بينما نقر ضمناً بوجود تنوع في التعليم يُفضي إلى قدرات ومستويات تحصيل متباينة بين الطلاب؟ هذا الإلزام، بدلاً من أن يُقدم مناهج قومية تتواءم مع خصوصية كل نظام تعليمي وتُثري تجربته، يُفضي إلى نتيجة محبطة: إما عجز الطلاب عن استيعاب هذه المواد بفاعلية حقيقية، أو معاملتها كمواد ثانوية تُدرّس على عجل وتُنسى سريعاً. والنتيجة النهائية، كما بات جلياً، هي تخريج أجيال تائهة، تفتقر إلى عمق الهوية والانتماء، وكأنها جذور اقتُلعت من تربتها.
تتعمق هذه الفجوة عند تأمل الفوارق الجوهرية بين من يقومون على العملية التعليمية ذاتها. فمعلمو المدارس الدولية قد يكونون مؤهلين وفق معايير عالمية، ويتمتعون بخبرة في مناهج تعليمية متطورة (المناهج الأمريكية أو البريطانية أو البكالوريا الدولية)، ويركزون على التفكير النقدي، والبحث، والتطبيق العملي للمعرفة، و يتلقون غالباً تدريباً مستمراً في أحدث استراتيجيات التدريس. بيئتهم التعليمية غنية بالموارد والتقنيات الحديثة، ويشجعون الطلاب على المبادرة والمشاركة الفعالة في صقل شخصياتهم المتوازنة والمنفتحة على العالم. على النقيض، يواجه معلمو المدارس الحكومية تحديات جمة؛ فهم يعملون في فصول دراسية مكتظة، بموارد محدودة، وتدريب قد لا يواكب أحدث التطورات التربوية. يعتمد منهجهم عادةً على التلقين والحفظ، مع تركيز مكثف على الامتحانات الموحدة، ورغم جهودهم المخلصة، فإن الضغوطات الهيكلية تحول دون قدرتهم على تنمية المهارات الإبداعية والتفكير النقدي لدى الطلاب بنفس القدر.
وعلى هذه الخلفية المثقلة بالأسئلة، تُطل مبادرات جديدة كإحياء الكتاتيب، وكأننا نُعيد إنتاج نفس المعضلة في ثوبٍ آخر. ليس الاعتراض هنا على قيمة الكتاتيب الجوهرية، فهي تحمل في طياتها موروثاً تعليمياً وثقافياً وتراثياً لا يُقدر بثمن، وقادرة على غرس القيم الأصيلة في نفوس النشء. لكن، يجب ألا نغفل أن الكتاتيب، بطبيعتها التقليدية وبساطتها، تخدم بشكل أساسي الطبقات الاجتماعية الأقل حظاً في مناطق معينة من مصر، القرى والنجوع. وأشك حتى وإن شملت المبادرة توفير الكتاتيب في المدن، فقد تكون فعاليتها محدودة أو شبه معدومة مع المجتمعات الأخرى داخل النسيج المصري، تلك التي اعتادت على أساليب تعليمية مختلفة تماماً، وأصبحت اللغات الأجنبية جزءاً أصيلاً من تكوينها. الاعتراض هُنا ينصب على آليات التنفيذ التي تُشير إلى تكرار نفس الأخطاء المنهجية التي أودت بفاعلية المناهج القومية الموحدة في المنظومات التعليمية الأخرى. كيف يمكننا أن نتوقع أن تنجح الكتاتيب في غرس الهوية إذا لم تُراعَ فيها الفروق الدقيقة بين البيئات والقدرات والأنظمة التي يتعلم فيها الأطفال؟ هل ستُصبح الكتاتيب مجرد ساحات أخرى لتلقينٍ جامدٍ بلا هوية، أم ستُعيد إحياء روح الأصالة بتجديدٍ واعٍ؟
إن التحدي الحقيقي لا يكمن في مجرد إطلاق المبادرات، لكن في كيفية تكييف المناهج القومية، سواء في الكتاتيب أو في المدارس بمختلف أنواعها، بحيث تُصبح جزءاً لا يتجزأ من تجربة التعلم لكل طالب، بغض النظر عن المسار التعليمي الذي اختاره. وهذا يستدعي مقاربة عملية متعددة الأوجه. فيجب أن تُصمم المناهج القومية (اللغة العربية، الدين، الدراسات الاجتماعية) بأكثر من مستوى، تراعى فيها القدرات الاستيعابية والتحديات التعليمية لكل نظام. فمثلاً، يمكن لمناهج المدارس الدولية أن تُركز على دمج المحتوى القومي ضمن مشاريع بحثية وتفاعلية. كما أنه ينبغي تدريب المعلمين في كل نظام تعليمي على كيفية تدريس المواد القومية بطرق مبتكرة تتناسب مع طلابهم. فمعلم اللغة العربية في مدرسة دولية يحتاج إلى أدوات مختلفة تماماً عن معلم المدارس الحكومية، الذي يركز على المنهج المقرر الموحد ضمن بيئة صفية تقليدية، والذي بدوره يختلف عن معلم الكتّاب، مع التركيز على أساليب التعلم النشط والربط بين المحتوى النظري وتجارب الحياة الواقعية. ولضمان ألا تتحول الكتاتيب إلى بؤر للتطرف والأفكار الهدامة، يجب أن تُشرف وزارة الأوقاف والأزهر الشريف عليها بشكل صارم، مع إخضاع كل معلم لدورات تأهيل مكثفة تُركز على المنهج الوسطي للإسلام وأساليب التربية الحديثة. كما يمكن تنظيم أنشطة مشتركة بين طلاب المدارس الأجنبية والمدارس الحكومية وطلاب الكتاتيب، مثل مسابقات حفظ القرآن الكريم أو مسابقات الإلقاء الشعري باللغة العربية، لبناء جسور التواصل وتعزيز الانتماء المشترك. أخيراً، يمكننا الاستفادة من التكنولوجيا بتطوير تطبيقات تعليمية تفاعلية، ومنصات تعليم إلكترونية، ومحتوى مرئي جذاب باللغة العربية، يستهدف جميع الأعمار والمستويات التعليمية، ليُقدم قصصاً تاريخية وتعاليم دينية وقواعد لغوية بطرق تُنافس جاذبية المحتوى الأجنبي.
دون هذا التكيف، ودون رؤية شاملة تعترف بالتنوع وتعمل على استغلاله، ستبقى الكتاتيب، وغيرها من المبادرات، مجرد حلول جزئية، قد تتحول إلى مجرد مبانٍ بلا روح، ومناهج بلا هوية حقيقية. كما أن بناء الهوية القومية المتكاملة لا يتطلب مجرد "مواد قومية" موحدة؛ إنه يتطلب فهماً عميقاً لتحديات الواقع التعليمي المتشعب، وتصميم استراتيجيات تنفيذ مبتكرة تضمن أن يجد كل ابن وابنة من أبناء مصر ذاتهم في تاريخهم، لغتهم، وقيمهم، مهما اختلفت دروب تعليمهم. إنها دعوة لنسج هوية مصرية أصيلة، لا تقف في وجه التحديات العالمية فقط، ولكن تنطلق منها بثقة وثبات نحو مستقبل أكثر مصرية. وأخيرا، لا لتقسيم الهوية، وأهلا بإثرائها.