الكاتبة الجزائرية مريم عرجون تكتب : الأضحية التي لا تُقبل ” فلسطين الذبيحة المنسية”:


وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، لَكِنَّ الذِّكْرَى أَصْبَحَتْ انْتِقَائِيَّةً فِي زِحَامِ المَشَاعِرِ، وَصَمْتِ الضَّمَائِر المُدَوَّنِ عَلَى صَحِيفَتِنَا اليَوْمِيَّةِ، وَالمُلْقَاة فِي تَعَبٍ فَوْقَ طَاوِلَاتِ العُرُوبَةِ الَّتِي تُرْخِي أَوْرَاقَهَا لِتَحْكِيَ خَرَابًا مُؤَرَّخًا مِنَ الطَّعْنَةِ حَتَّى اللَّعْنَةِ، هَذِهِ الطَّاوِلَاتُ التي كَانَتْ مَائِدَةَ المجْدِ، فَمَتَى أَصْبَحَتْ قَبْرًا لِأَحْلَامِنَا العَتِيقَةِ، فَيَا مَنْ تَقْرَأُ كِتَابِي المُدَّثَّرَ، هَلْ مِنْكُمْ مِنْ رِجَالَنَا، وَنسائنَا، وَأَطْفَالَ مَدِينَتِنَا يُزِيحُ الأَقْنِعَةَ البُكْمَاءَ، هَلْ مِنْكُمْ يَا شُيُوخَنَا، وَشَبَابَ مَدِينَتِنَا، يَصْرُخُ وَيَقُولُ طُوبَى لِزَمَانِ الحِبْرِ، وَاللُّغَةُ صَارَتْ خَرَابًا تُكْتَبُ بِالدَّمِ الأَحْمَرِ، لُغَةٌ تَبْحَثُ عَنْ لُغَتِهَا، عَنْ أَحْرُفٍ تُغْزَلُ مِنْهَا مَا يَسْتُرُ عُرْيَ نَاصِيَتِنَا، فَكَيْفَ أَكْتُبُ عن عُرْيِ الأَوْطَانِ العَرَبِيَّةِ، وَكَفُّهُمْ أَخْرَجَ وَحْشًا فِي العِشْرِينَ، لَبِسَ ثَوْبًا أَسْوَدَ يَسْتُرُ وِزْرَهُمُ المُلْتَهِبَ، الَّذِي يَهْتَاجُ فِي ظَمَأٍ أَمَامَ طُرُقِ فِلَسْطِينَ المَطُوقَةِ، فَيَا أَسَفِي عَلَيْكِ يَا غَزَّةَ، الَّتِي حَمْحَمَتْ وَبَاحَ صَوْتُهَا مِنْ مُنَادَاةِ العَدَمِ، وَضَاعَ صَرَاخُهَا أَمَامَ أَوْطَانٍ مُصَابَةٍ بِالصَّمَمِ، يَتَطَلَّعُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ، وَيَا أَسَفِي عَلَيْكَ أَيُّهَا الزَّمَنُ العَرَبِيُّ، الَّذِي لَا يَمْلِكُ تَارِيخَهُ أَطْلَالًا لِأَنْوحَ عَلَيْهِ!
فَيَا رَسُولَ مُوَاجِعِنَا المُمْتَدَّة مِنَ الدَّمْعَةِ حَتَّى الصَّفْعَةِ التي سُكُبَتْ فِي سَمْعِ ٱلرَّحْمَٰنِ مُنَادِيهَا وَالظُّلْمُ صَدَّاحٌ فِي هَٰذَا ٱلْعَصْرِ، والعصر إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، وإِنِّي إِذًا وَإِيَّاكُمْ لَفِي خُسْرٍ، سُرِرْنَا بِزَمَنٍ سَاءَنَا، فمَا أَسْعَدَنِي وَنَحْنُ جُثَثٌ تَمْرَحُ فِي ذَاكِرَتِنَا، فَمَا أَسْعَدَنِي أَنَحْنُ غَابَةٌ أَمْ بَشَرٌ لأن لَا أَحَدَ فِينَا يَصْرُخُ فِي زَمَنٍ لَا يُفِيقُ، وَيَرْفَضُ أَنْ يَكُونَ زَمَانًا، وَلِأَنَّ الخَوْفَ يُلَمْلِمُ شَتَاتَنَا، ثُمَّ يَذْرِينَا وَيُمَزِّقُ أَوَاصِرَنَا، لِيُبْقِيَنَا فِي أَوْطَانِنَا تَمَاثِيلَ فِي مَعْبَدٍ مَهْجُورٍ، لَا صَدَى فِيهِ وَلَا ضَوْءَ يَعْبُرُ، فَمَا أَسْعَدَنِي بَيْنَكُمُ اليَوْمَ، وَغَدًا يَوْمٌ تُسْأَلُونَ، فَأَنَا النُّقْطَةُ وَالحَرْفُ، وَأَنَا المَهْوُوسُ بِفِلَسْطِينَ وَمَقْتُولٌ بِعِشْقِهَا الأَكْبَرِ، وحتما قَلَمِي قَاتِلِي أَيْضًا، لِأَنِّي أَعْرِفُ أَنَّ حَرْفِي سَام، فَمَا أَسْعَدَنِي، وَمَا أَسْعَدَ وَجْعِي، وَالوَجْعُ قَصِيدَةُ رِثَاءٍ نَظَمَهَا قَلَمٌ تَمَرَّدَ عَنِ الأَحْرُفِ، فَأَسْكَنُوهُ مُسْتَشْفَى المَجَانِينِ، الَّذِي يُطِلُّ عَلَيْهِ العِيدُ بِبَهَائِهِ المَعْهُودِ وَحَنِينِهِ القَدِيمِ، بَيْنَمَا تَتَدَفَّقُ جُمُوعُ الحُجَّاجِ إِلَى صَعِيدِ عَرَفَةَ، كَأَنَّهَا نَهْرٌ مِنَ الدَّعَوَاتِ الصَّادِقَةِ وَالأَرْوَاحِ العَطْشَى إِلَى المَغْفِرَةِ، أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا، وثَمَّةَ آخَرُونَ، أُولَئِكَ المُوحِشُونَ الَّذِينَ سَلَخَتْهُمُ الدُّنْيَا مِنَ الإِنْسَانِيَّةِ، يَهْرُولُونَ كَالذِّئَابِ نَحْوَ مَوَائِدِ العِيدِ، يُقَطِّعُونَ اللَّحْمَ بِخُشُونَةٍ، وَيَنْثُرُونَ العِظَامَ فِي زَوَايَا الأَرْضِ العَقِيمَةِ، وَكَأَنَّهُمْ يَذْبَحُونَ الذِّكْرَى نَفْسَهَا، وَهُنَاكَ أَيْضًا فِي زَاوِيَةِ الأَحْيَاءِ الثَّكْلَى لِمَدَائِنِنَا العَظِيمَةِ حَيْثُ لَا يَنْظُرُ أَحَدٌ، تُذْبَحُ فِلَسْطِينُ كُلَّ يَوْمٍ، وَتُقَدَّمُ قُرْبَانًا عَلَى مَذْبَحِ الصَّمْتِ وَالخِيَانَةِ، وَلَا يَزَالُ السِّكِّينُ يَغُوصُ فِي اللَّحْمِ، وَالضَّحْكُ الغَلِيظُ يَعْلُو فَوْقَ أَنِينِ الذَّبَائِحِ!
يَوْمُ عَرَفَةَ يَأْتِي كَالنَّذِيرِ، يُوقِظُ فِي الصُّدُورِ ذِكْرَيَاتِ العَدْلِ الإِلَهِيِّ، حِينَ كَانَ الظَّالِمُ يُسَاقُ إِلَى جُبِّ الخِزْيِ، وَالمَظْلُومُ يَنْتَفِضُ كَالشَّعْلَةِ فِي وَجْهِ اللَّيْلِ، لَكِنَّ الزَّمَانَ الآنَ يَخْتَلِفُ، فَهَا هُمْ جَلَّادُو العَصْرِ يَرْقُصُونَ عَلَى جُثَثِ الأَبْرِيَاءِ، وَيَبِيعُونَ دِينَهُمْ بِقَبْضَةِ دُولَارٍ، وَكَأَنَّ قَدَرَ اللهِ لَنْ يُدْرِكَهُمْ، وَلَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دماؤها، وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ.
فَكَيْفَ تَكُونُ التَّقْوَى وَنَحْنُ نُغْضُ الطَّرْفَ عَنْ شُهَدَاءِ غَزَّةَ الَّذِينَ قَدَّمُوا أَرْوَاحَهُمْ ثَمَنًا لِلْكَرَامَةِ، وَعَنْ دِمَاءِ الأَطْفَالِ الأَبْرِيَاءِ الَّتِي تَسِيلُ كُلَّ يَوْمٍ دُونَ أَنْ تُحَرِّكَ فِينَا سَاكِنًا، وَعَنْ لُحُومِ الفِلَسْطِينِيِّينَ الَّتِي أَنْهَكَهَا الجُوعُ وَالحِصَارُ، بَيْنَمَا نُكْثِرُ مِنْ لُحُومِ أَضَاحِينَا؟
وكَيْفَ تَكُونُ التَّقْوَى فِي خِضَمِّ هَذَا المَشْهَدِ، حين تَقِفُ فِلَسْطِينُ كَأَعْظَمِ أُضْحِيَّةٍ فِي العَصْرِ الحَدِيثِ، تُقَدَّمُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى مَذْبَحِ الصَّمْتِ العَالَمِيِّ، تُنْزَفُ دماءهَا فِي وَضْحِ النَّهَارِ، وَتُسْلَبُ حَتَّى دُمُوعُ أَبْنَائِهَا، فَمَا أَقْسَى أَنْ تَكُونَ الضَّحِيَّةَ الَّتِي لَا يُنْظَرُ إِلَيْهَا إِلَّا مِنْ خِلَالِ عَدَسَةِ التَّارِيخِ، أَوْ فِي لَحَظَاتِ عَطْفٍ عَابِرَةٍ، كَيْفَ نُعِيدُ الرُّوحَ لِلتَّضْحِيَةِ، أَيْنَ الذَّبَائِحُ الَّتِي سَتُقَدَّمُ فِي سَبِيلِ العَدَالَةِ، وأَيْنَ الأَضَاحِي الَّتِي سَتُنْهِكُ الظُّلْمَ، لأنهم قَدْ حَوَّلُوا غَزَّةَ إِلَى مَذْبَحَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ، نُشَاهِدُهَا عَبْرَ الشَّاشَاتِ، ثُمَّ نُغْمِضُ أَعْيُنَنَا وَكَأَنَّهَا فيلم رعب وترفع نهايته!
ورغم كل هذا يَا ل