الجمعة 6 يونيو 2025 03:11 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. نهال أحمد يوسف تكتب : عيد الأضحى بين التكبيرات ونور الشاشات

د. نهال أحمد يوسف
د. نهال أحمد يوسف

ما زالت شمس مصر تُلقي بوهجها الذهبي على شوارعها العتيقة، وعلى أسطح المنازل التي تتلألأ في انتظار استقبال عيد الأضحى المبارك. هو عيد التضحية والفداء، عيد ينسج خيوطه من ذكريات الأجداد، ومن فرحة الأطفال التي تتراقص في عيونهم، ومن رائحة الكحك التي تملأ البيوت. لكن، في هذا العصر المتسارع، عصر "الفيسبوك" و"الواتساب"، هل لا يزال العيد يحتفظ بسحره القديم؟ أم أن شاشاتنا اللامعة قد ألقت بظلالها على تقاليدنا العريقة؟

لطالما كان عيد الأضحى في مصر قصة تُروى عبر الأجيال. تبدأ فصولها قبيل العيد بأيام، حيث تنبض الأسواق بالحياة، تتراص فيها الأضاحي، وتتعالى أصوات الباعة في دلالة على قدوم الخير. في كل بيت مصري، تتحول ربات البيوت إلى فنانات، يُبدعن في صناعة الكحك والغُريبة والبيتي فور، لتصبح تلك الروائح العطرة بمثابة نشيد العيد الأول. صباح يوم العيد، تتجلى الروحانية في أبهى صورها، حيث تكتظ الساحات بالمصلين، أصوات التكبيرات تملأ الأجواء، ترتفع إلى السماء كابتهالات خالصة، لتعانق أرواحاً تواقة إلى السلام والمغفرة. بعد الصلاة، تبدأ الزيارات العائلية، تتجمع الأسر حول موائد الطعام العامرة، تتبادل التهاني والضحكات، تتصافح الأيدي، وتُقبّل الرؤوس، في مشهد يجسد أسمى معاني التآخي والمودة. أما الأطفال، فلكل عيد قصتهم معه، يرتدون أجمل الثياب، يهرعون لجمع "العيدية"، لترتسم على وجوههم الصغيرة ابتسامات لا تُنسى.

لكن، في غمرة هذا الاحتفال التقليدي، تسللت أصابع التكنولوجيا لتعيد تشكيل بعض تفاصيل العيد. أصبحنا نرى صلاة العيد تُبث مباشرة على صفحات التواصل الاجتماعي، لتصل إلى المغتربين البعيدين، أو لمن أقعدته الظروف عن الحضور. ففي حين أن هذه الميزة تُضيء قلوب البعض وتُشعرهم بالانتماء، إلا أنها تطرح تساؤلاً: هل يمكن لشاشة أن تنقل إلينا نفس شعور الوقوف بين الصفوف، وتلامس الأكتاف، والارتفاع الروحي الذي يمنحه الحضور الفعلي؟

أما عن الأضحية، تلك الشعيرة المقدسة التي تُجسد قصة الفداء، فقد شهدت هي الأخرى تحولاً لافتاً. فبجانب الأسواق التقليدية، ظهرت منصات إلكترونية تتيح شراء الأضاحي والتبرع بها بنقرة زر. هذه الثورة الرقمية يسّرت على الكثيرين أداء هذه الشعيرة، ووسعت دائرة المستفيدين لتصل إلى القرى النائية والجمعيات الخيرية. فهل يقلل هذا من "بركة" لمس الأضحية واختيارها والذبح بنفسك؟ أم أن الهدف الأسمى من الأضحية، وهو إطعام الفقير والمحتاج، قد تحقق بصورة أسهل وأوسع نطاقاً؟ ربما يكون لكلتا الطريقتين نكهتها الخاصة، فالأولى تُعزز الارتباط الشخصي بالنسك، والثانية تُعلي من قيمة التكافل الاجتماعي.

وفي زمن كانت فيه بطاقات المعايدة الملونة تُرسل بالبريد، وتُخبأ فيها كلمات من القلب، أصبحنا اليوم نغرق في بحر من رسائل التهنئة الرقمية. تهاني العيد تنهال على هواتفنا بضغطة زر، صور متحركة، ومقاطع فيديو قصيرة، وعبارات جاهزة. هي سريعة الانتشار، وتصل إلى عدد هائل من الأصدقاء والمعارف في لحظات. لكن، هل يمكن لـ "إيموجي" أن يُعوض دفء العناق، أو لرسالة واتساب أن تُعادل بهجة زيارة مفاجئة؟ ربما فقدت هذه التهاني بعضاً من خصوصيتها وسحرها، لكنها في المقابل أبقت على جسور التواصل مفتوحة مع من تبعدنا عنهم المسافات.

ولعل الجانب الأكثر إيجابية في هذا التحول الرقمي هو انتشار المحتوى الديني والتوعوي. ففي كل زاوية من زوايا الإنترنت، تجد مقاطع فيديو لشيوخ أجلاء يشرحون أحكام العيد، أو ينشرون فضل التضحية، أو يدعون إلى التسامح والمحبة. أصبحت المعرفة الدينية متاحة للجميع، في أي وقت ومكان، مما يساهم في تعميق الوعي بأهمية العيد وجوهره.

إن عيد الأضحى في مصر، في زمن "الفيسبوك"، هو خليط فريد من التقاليد الأصيلة والابتكارات الرقمية. إنه دعوة للتفكير في كيفية دمج الأصالة بالمعاصرة دون فقدان الروح الحقيقية للأشياء. هل يمكننا أن نحتفظ بلمة العائلة حول مائدة الطعام، وفي الوقت نفسه نستخدم التكنولوجيا للتواصل مع من فاتتهم هذه اللمة؟ هل نستطيع أن نشارك في شعائر العيد بقلب حاضر، وفي نفس الوقت نُسخّر أدوات العصر الحديث لنشر الخير والعطاء؟

ربما لا يكون السؤال هو ما إذا كانت التكنولوجيا قد غيرت العيد، بل كيف نتعامل نحن مع هذا التغيير. هل نجعل منها جسراً لتوسيع دائرة المحبة والعطاء، أم ندعها تُبعدنا عن جوهر الاحتفال وروحانيته؟ في النهاية، يبقى عيد الأضحى، بكل ما فيه من تفاصيل، دعوة للتضحية، ليس فقط بالخروف، بل بالوقت والجهد والمشاعر، من أجل من نحبهم ومن أجل مجتمعنا، سواء كان ذلك في الواقع أم في العالم الافتراضي. وما زالت رائحة الكحك في شوارع مصر تُخبرنا بأن العيد، مهما تغيرت وسائله، يظل ينبض بالحياة، وبالأمل، وبالتآخي.

د. نهال أحمد يوسف عيد الأضحى بين التكبيرات ونور الشاشات الجارديان المصرية