شبراوى خاطر يكتب : أرمانوسة اليمامة الأخرى..


باسلوبه الرشيق البليغ كتب الأديب المصري "مصطفى صادق الرافعي" (١٨٨٠-١٩٣٧) قصة "اليمامتان" يحكي فيها قصة "أرمانوسة" إبنة المقوقس ملك القبط في مصر اثناء الفتح الإسلامي بقيادة "عمرو بن العاص"
لمصر.
وكان ما كان من القصة عندما عزم "عمرو بن العاص" ان يسير بجنوده إلى الأسكندرية لقتال الروم، وأمر بفسطاطه أن يقوّض، فأصابوا يمامة قد باضت في أعلاه فأخبروه، فقال: "قد تَحَرَّمَتْ في جوارنا، أقِرُّوا الفسطاط حتى تطير فِرَاخُها" فأقرّوه.
وكانت لأرمانوسة وصيفة تُسمَّى "مارية" ذات جمال يوناني أتمته مصر، ومسحته بسحرها، فزاد جمالها على أن يكون مصرياً. وكانت مارية هذه مسيحية قوية الدين والعقل، اتخذها المقوقس كنيسة حية لابنته.
فلما سمعت بخبر اليمامة، أنشدت شعرا عذبا رقيقاً وحفظته عنها "أرمانوسة". هذا الشعر الذي على فسطاط الامير يمامة جاثمة تحضن بيضها، تركها الأمير تصنع الحياة! وذهب هو يصنع الموت .
وكما ذكر "الرافعي":
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
لو سئلت عن هذا البيض لقالت: هذا كنزي.
هي كأنها امرأة ملكت ملكها من الحياة ولم تفتقر.
هل أكلِّف الوجود شيئا إذا كلَّفتهُ رجلاً واحداً أحبه
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
الشمس والقمر والنجوم كلها أصغر في عينها من هذا البيض.
هي كأرقّ امرأة عرفت الرقة مرتين: في الحب، والولادة.
هل أكُلِّفُ الوجود شيئاً كثيراٌ إذا أردتُ أن أكون كهذه اليمامة.
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
تقول اليمامة: إن الوجود يحب أن يُرى بلونين في عين الأنثى:
مرة حبيباً كبيراً في رَجُلها، ومرة حبيباً صغيراً في أولادها.
أيتها اليمامة، لم تعرفي الأمير وترك لكِ فسطاطه!
هكذا الحظ: عدلٌ مضاعف في ناحية، وظلمٌ مضاعف في ناحية أخرى.
احمدي الله أيتها اليمامة، أن ليس عندكم لُغات وأديان.
عندكم فقط: الحب والطبيعة والحياة.
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
يمامة سعيدة، ستكون في التاريخ كهدهد سليمان.
نُسب الهدهد لسليمان، وستُنسب اليمامة إلى عمرو.
واهاً لك يا عمرو! أما ضرَّ لو عرفْتَ "اليمامة الأخرى"..
وكما صورها "جورجي زيدان" في روايته (أرمانوسة المصرية): كان للمقوقس ابنة في ريعان الشباب، جمعت بين الجمال الروماني واللطف المصري اسمها «أرمانوسة»، وقد خصها الله بلين الجانب وحُسن الخلق حتى ضُرب المثل بجمالها وذكائها، وكان والدها يحبها حبًّا جمًّا؛ لأنه لم يكن له إلا هي وابن اسمه أرسطوليس، فأباح لها التصرف في بيته وجعل لها الأمر والنهي في خدمه وحاشيته، وكان هرقل إمبراطور الرومانيين قد سمع بها فخطبها لابنه قسطنطين، وشاع ذلك وذاع حتى تحدَّث به الخاص والعام وحسدها الناس عليه، لكنها لم تكن راضية بهذا الزواج وإن لم تظهر شعورها لئلَّا يصيبها أو يصيب والدها سوء، بل كظمت غيظها وصبرت على مضض، حتى يأتي الله بأمر من عنده.
ما أجملها من حكاية يرويها الزمان، عن عصر ملحمي على أرض مصر الطاهرة، عصر يمثّل نقطة تحول في التاريخ العتيد لهذا الوطن المتسامح المسالم والمتصالح مع نفسه.