الإثنين 9 يونيو 2025 10:44 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

شبراوى خاطر يكتب : العلاقات العامة وبرامج تغيير الأعراف الاجتماعية.

الكاتب الكبير شبراوى خاطر
الكاتب الكبير شبراوى خاطر

منذ ان كنت طالباً لدراسة العلاقات العامة في بداية الثمينيات من القرن الماضي، لم أكن لأتصور أنني سوف أقع في غرام بما يسمى علم "نشر الافكار المستحدثة"، ومما زاد من شدة شغفي بهذا العلم هو اشتغالي أثناء الدراسة في جمع المعلومات لبعض البحوث الاستقصائية، سواء بما يخص الحملات الاجتماعية لتنظيم الاسرة او الاهتمام بشرب المياه النظيفة او تقييم الحملات الإعلانية لبعض المنتجات والخدمات الجديدة، وهذا الامر لم يُيسّر لي التجول في أنحاء مصر من أجل إجراء المقابلات الاستقصائية. بل مكّن لي الإنخراط مبكراً في عملية تعلم مستمرة.

منذ ذلك الحين وأنا اعتبر نفسي من طلاب ذلك العلم بجميع موارده ومصادره،
واتذكر هنا في هذا المقام، السؤال الذي طرحه 'ديمون سنتولا' أستاذ علوم الاتصال بكلية أنينبرغ للاتصالات، وأستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم بجامعة بنسلفانيا حيث سأل:

لماذا انتشر فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) بسرعة كبيرة في أوساط سكان العالم بينما لم تنتشر السلوكيات التي يمكن أن تحقق الوقاية منه؟

مع علمنا المسبق أن انتشار المرض صار الطريقة المعهودة للتفكير بشأن معظم انواع الانتشار في اوساط المجتمعات، إذ يمكن لشخص واحد مصاب بفيروس الإنفلونزا أن ينقل العدوى إلى كثيرين غيره وهم بدورهم يمكنهم نشر الفيروس إلى عدد أكبر من الناس. وعادة ما يُعتقد أن المعلومات تنتشر بطريقة مماثلة.

وإذا كان ذلك صحيحاً، وكان الانتشار يسير على هذا النهج، فلماذا إذن تستغرق حركات اجتماعية عديدة شهوراً أو سنوات حتى تنتشر؟ ولماذا تعاني تقنيات جديدة كثيرة إلى أن تحقق انطلاقة؟ ولماذا استراتيجيات الوقاية من الأمراض في الأغلب تفشل في الرسوخ؟

فهل يمكن استخدام الدروس المستفادة من انتشار الفيروسات بهدف تحسين انتشار السلوكيات فتساعدنا على نشر كل شيء، بما في ذلك حركات اجتماعية او تقنيات مبتكرة؟
هذه تساؤولات 'ديمون سنتولا' أستاذ علوم الاتصال الذي علق قائلاً: "نحن جميعاً نعلم أن الأفكار الجديدة يمكنها أن تنتشر بالسهولة المذهلة نفسها التي يتفشى بها الفيروس. وعلى رغم ذلك فنحن نعلم أيضاً أن الابتكارات الاجتماعية التي يمكن أن تعود بالنفع على المجتمع غالباً ما تخفق في تحقيق الانتشار!!."

وإنني ارى بناء على الخبرات المكتسبة لسنوات عديدة في علم وممارسة مهنة "العلاقات العامة" استطيع ان اذكر مثال واحد يفسّر ويجيب على بعض هذه التساؤولات التي طرحها "ديمون سنتولا"، ففي مطلع الستينيات وبواكير السبعينيات من القرن الماضي شهد العالم اجمع "موضة" حكومية حول العالم لمواجهة ما يسمى "بالانفجار السكاني"، وواجهت العديد من الحكومات في العالم مشكلات مماثلة، وتدخّلت بتدشين مبادارات حكومية واجتماعية لترويج وسائل منع الحمل أو برامج "تنظيم الاسرة" كما اطلقنا عليها في مصر من اجل الإلتفاف حول المفاهيم والتصورات الدينية بخصوص مصطلح "منع الحمل" الذي لم يكن مقبولاً، بالإضافة إلى الأسباب الإجتماعية والاقتصادية التي تشجع على مزيد من انجاب الاطفال سواء كونهم "عزوة أو عناصر انتاجية في الاعمال والزراعة".

الأمر الجدير بالذكر هنا، أن أغلب التدخلات الحكومية والمؤسسية قد بُنيت هنا على أساس النماذج السيكولوجية لتغيير السلوك، وحاولت بعض المؤسسات أن تستحث السكان على استخدام وسائل منع الحمل بتأكيد "المسؤولية الفردية". ولكن تدلنا الدراسات التي تمت في هذا الشأن، بأن النجاح المتواضع لكثير من هذه البرامج يتناقض تناقضاً صارخاً مع المبادرة الكورية في ذات الوقت، التي جاوزت كل أهداف سياساتها المعلنة في أقل من عشرين سنة. وذلك بابتكار طريقة تفكير جديدة بشأن محاولات التدخل الحكومي في الصحة العامة - طريقة تفكير سوسيولوجية بشان كيف أمكن استغلال شبكات الأقران لتغيير أعراف اجتماعية.
والتي اظهرت جانباً مثير للاهتمام بأن وسيلة منع الحمل بحد ذاتها لم تكن العامل المحدّد للانتشار الناجح، بل إنها "شبكة التأثير الاجتماعي".
وبذلك نخلص إلى أن الشبكات الاجتماعية هي المسارات الرئيسة لانتشار أعراف اجتماعية جديدة.

ثم أعود الى مصر، حيث نُظّمت برامج ونُفذّت حملات عديدة وأُنفقت ملايين الجنيهات بعضها من موازنة الدولة والبعض الآخر من منح المؤسسات الدولية، والمدهش ان تعداد مصر في عام ١٩٧٥م كان حوالي ٣٧ مليون نسمة كما ذكر الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء وكانت موضة مواجهة "الإنفجار السكاني" بدأت تتفشى منذ منتصف الستينيات، وبتوجيهات من المؤسسات الدولية التي كانت تنادي بضرورة التحكم في الانفجار السكاني.

وفي إطار الجهود المصرية العديدة من اول حملات "كريمة مختار" او مسلسل "سرّ الأرض" ومحاولات تسخير الدراما المصرية لنشر الافكار المجتمعية، قام المخرج الإذاعي والسينارست "سمير عبد العظيم" بتقديم المسلسل الإذاعي "أفواه وارانب" بطولة فاتن حمامة، ثم قدمه للسينما بإخراج من "هنري بركات" عام ١٩٧٧، وهو فيلم يعالج قضية الفقر والغنى ومشكلات عدم التخطيط الأسري. والفيلم يصور الحياة التعسة لأسرة ريفية كثيرة الأولاد. وبذلك يقدم الفيلم "إنذار اجتماعي" واضح لخطورة كثرة الإنجاب.

وبعد ما يقرب من سبعة اعوام يقدم لنا المخرج 'محمد خان' فيلمه الرائع "خرج ولم يعد" فيلم دراما مصري بطولة يحيى الفخراني، فريد شوقي، وليلى علوي، يصور لنا حياة الريف الهادئة الملهمة لأسرة مكونة من أب وزوجته وابنته، ومن منا لم يشاهد هذا الفيلم وتاثر به وأحب حياة الريف بلا صخب او ضجيج، وبدون زحام الأبناء.

والسؤال هنا هل تلك الاعمال ساعدت على تغيير الأعراف الاجتماعية، خاصة أنه اصبح تعداد السكان مؤخراً يقارب المائة وعشرة ملايين نسمة أي بزيادة تقرب من الضعفين خلال خمسون عاما الماضية.

المؤكد هنا أن دوافع الإنجاب أعظم كثيراً من الموانع التي تحد منه، فإذا فَهِمنا الدوافع، وتفهـمنا ماهية الموانع، نستطيع التفاهُم حول افضل الحلول الممكنة.

شبراوى خاطر مقالات شبراوى خاطر العلاقات العامة وبرامج تغيير الأعراف الاجتماعية.الجارديان المصرية