الثلاثاء 10 يونيو 2025 01:10 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. نهال أحمد يوسف تكتب : أبطال المشهد رغماً عنهم!

د. نهال أحمد يوسف
د. نهال أحمد يوسف

يُطِلّ علينا عيد الأضحى المبارك كل عام بنفحاته الإيمانية العميقة، حاملاً في طياته دعوة للتأمل في قيم التضحية والفداء التي تجسّدت في قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام. إنها شعيرة إسلامية عظيمة، وسُنّة مؤكدة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لا تقتصر معانيها على مجرد ذبح الأنعام، بل تتسع لتشمل تعزيز التكافل الاجتماعي، ومد يد العون للمحتاجين، وتوثيق أواصر التراحم بين أفراد المجتمع. جوهر هذه الشعيرة يكمن في كونها فعل عبادة خالص لوجه الله، تحيط به هالة من الخشوع والستر، وتتسم بخصوصية فريدة ينبغي أن تُصان. هي ليست مجرد طقس يُؤدى، إنما تجلٍ لروح العطاء والامتثال، وعمقها يكمن في النية الصادقة والسرية التي تُضفي عليها قيمة إضافية في ميزان الأجر والثواب. إنها مناسبة تُعلي من شأن الإحسان حتى في التعامل مع الحيوان الذي يُذبح، حيث توصي الشريعة الإسلامية بالرفق والإحداد في الذبح، تقليلاً لألمه قدر الإمكان.

لكننا اليوم، في خضم الثورة الرقمية والطغيان المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي، نشهد تحوّلاً لافتاً في طريقة التعامل مع هذه الشعيرة المقدسة، تحوّلاً يثير الكثير من التساؤلات حول جدوى هذه الممارسات وتأثيراتها. فبعد أن كانت الأضحية طقساً حميمياً يؤديه المسلم في بيته أو في الأماكن المخصصة للذبح، بمنأى عن الأضواء الكاشفة لعدسات الهواتف الذكية، أصبحت في كثير من الأحيان "مادة إعلامية" تُنشر على نطاق واسع. نرى صوراً ومقاطع فيديو لعملية الذبح، بكل تفاصيلها الدقيقة، تُشارك على المنصات الرقمية: فيسبوك، إنستغرام، تيك توك، وغيرها، وكأنها حدث يستدعي التوثيق والانتشار. هذا السلوك، وإن بدا للبعض مجرد أمر عادي يعكس التطور التكنولوجي وقدرة الأفراد على مشاركة تفاصيل حياتهم، فإنه يحمل في طياته العديد من الإشكاليات التي تمسّ جوهر هذه العبادة، وتتعارض مع الفطرة السليمة والذوق العام، وتترك آثاراً اجتماعية ونفسية عميقة تستدعي الوقوف عندها والتأمل في تبعاتها.

إن المَّس بالجانب النفسي للجمهور يَبرُز كقضية ملحة تزداد أهميتها في عصرنا الراهن، خاصة في مجتمع كالمجتمع المصري. ففي مجتمعاتنا التي أصبحت أكثر وعياً بجرائم العنف وانتهاك حقوق الحيوان، والتي تعج بالأخبار المروعة عن القسوة والوحشية التي تُمارس ضد الكائنات البريئة، يمكن أن تكون مشاهد الذبح الصريحة، بكل ما تحمله من دماء وصور قد يعتبرها البعض عنيفة، صادمة ومقلقة للكثيرين. هذا التأثير يشتد بشكل خاص على الأطفال، الذين قد لا يمتلكون الفهم الكافي لطبيعة الشعيرة الدينية، وقد تُرسخ لديهم هذه المشاهد صوراً ذهنية سلبية عن الحيوانات والذبح، مما يولِّد لديهم خوفاً أو اشمئزازاً غير مبرر، وربما يُسهم في بلادَة حسّهم تجاه مشاهد العنف. وبينما يرى البعض في نشر هذه المشاهد إحياءً للشعيرة ووعظاً للناس بأهميتها، فإنها قد تُحدث ردود فعل سلبية، وتُفهَم على أنها ترويج لمشاهد عنف غير مبرر، مما يفتح الباب أمام سوء الفهم والجدل، وربما تشويه صورة الإسلام في أذهان غير المسلمين أو حتى بعض المسلمين الذين لم يتعمقوا في فقه الأضحية.

هنا يكمن لب المشكلة في سياقنا المصري الحالي. فالمجتمع المصري، مثل غيره من المجتمعات، يواجه تحديات حقيقية فيما يتعلق بقضية العنف ضد الحيوانات البريئة. تتواتر الأخبار، وتُوثّق الفيديوهات، لحوادث مروعة تتضمن تعذيب وقتل حيوانات الشارع، مثل القطط والكلاب، أو حتى الحيوانات البرية التي تُصطاد بلا رحمة. هذه الممارسات الشاذة، التي تتنافى مع أبسط قيم الرحمة والإنسانية، ومع تعاليم الأديان السماوية التي تحُث على الرفق والرحمة بجميع الكائنات، تخلق حالة من القلق والاشمئزاز لدى شريحة كبيرة من المجتمع، وتُثير حفيظة المدافعين عن حقوق الحيوان. في ظل هذا المناخ، يصبح نشر مشاهد ذبح الأضاحي علناً، مهما كانت نية الناشر حسنة، بمثابة صب الزيت على النار. فالعين التي اعتادت على رؤية مشاهد القتل والعنف، قد لا تفرق بسهولة بين الذبح الشرعي الموجه لله والذي تُراعى فيه آداب معينة لتقليل الألم قدر الإمكان، وبين مشاهد التعذيب والقتل العشوائي التي تحدث في الشوارع. هذا التداخل البصري قد يُسهم في تطبيع فكرة العنف تجاه الحيوان بشكل عام، ويُقلل من حساسية المجتمع تجاه هذه الجرائم، مما يقوِّض جهود توعية المجتمع بأهمية الرفق بالحيوان ومكافحة ظاهرة العنف ضده. إنها مفارقة مؤلمة أن تتحول هذه الحيوانات -التي قُدر لها أن تكون أضحيات خالصة لوجه الله- إلى أبطال المشهد رغماً عنهم، تُعرض لعيون الملايين، وكأنها جزء من استعراض رقمي ينسي طبيعتها بوصفها كائنات حية تَستحق الرفق. هذا التحول من الخصوصية إلى العلنية يضفي على المشهد بُعداً مأساوياً يقلل من قدسِّيته ويُفرِّغه من معناه الروحاني.

إن فقدان الخصوصية والروحانية هو أول ما يتبادر إلى الذهن ويستدعي التفكير العميق. فالأضحية، مثل غيرها من العبادات التي تتصل بالقلب والنية، تتطلب حضوراً قلبياً وخشوعاً صادقاً. هذا الخشوع يتجلى في الابتعاد عن مظاهر العلن والتباهي، والتفرد بالعبادة بين العبد وربه. تصوير عملية الذبح بكل تفاصيلها، ثم نشرها على الملأ، يجردها من قدسيتها ويحولها إلى مشهد علني، قد يُفقدها ذلك الجو الروحاني الذي يُفترض أن يحيط بها. العبادة هي تواصل شخصي مع الخالق، وهذا التواصل يزدهر في السرية والستر، وليس في عرضها أمام الملايين من الغرباء. إن الستر في العبادات يُعد من دلائل الإخلاص. وكما قال الله تعالى في سياق مشابه "إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ"، والتقوى تقتضي أن يكون العمل خالصاً لله بعيداً عن الرياء. فالأضحية تُقدم لله وحده، وليست عرضاً يُقام للجمهور.
ولا يمكننا إغفال تحوّل الشعيرة إلى مادة للتباهي، وهي آفة العصر الرقمي التي تتغلغل في كل جانب من جوانب حياتنا. فالهدف الأسمى من الأضحية هو التقرب إلى الله والتصدق على الفقراء والمساكين، وتحقيق التكافل الاجتماعي، لا المباهاة أو التنافس على مرأى ومسمع من الناس. عندما تتحول العبادة إلى مسابقة في عرض الصور والفيديوهات، وتحول الأضحية من وسيلة للتقرب إلى الله إلى أداة للتفاخر الاجتماعي، تفقد جزءاً كبيراً من قيمتها الأخلاقية والاجتماعية. فما نراه اليوم من منافسة في عرض أحجام الأضاحي، أو جودة نوعها، أو حتى مهارة الذّابح، يُبعد الشعيرة عن مقاصدها النبيلة ويُدخلها في دائرة الرياء والمباهاة، وهو ما حذر منه الإسلام مراراً وتكراراً. إضافة إلى ذلك، في ظل التزايد المستمر للوعي بممارسات العنف ضد الحيوان وحقوقها على مستوى عالمي، قد تُنظر إلى هذه المشاهد المباشرة، حتى وإن كانت ضمن إطار شرعي، على أنها نوع من الترويع البصري الذي يتعارض مع مفاهيم الرفق بالحيوان التي دعا إليها الإسلام نفسه. يجب أن نُدرك أن الرسالة التي تصل للمتلقي عبر هذه الصور قد تكون مختلفة تمامًا عن النية الأصلية للنشر، خاصة في سياق عالمي شديد الحساسية تجاه قضايا حقوق الحيوان، والذي قد يربط بين هذه المشاهد وبين العنف الذي لا مبرر له.

هذا يقودنا إلى تساؤل جوهري يفرض نفسه بقوة في ظل هذه المتغيرات: هل الضرورة تستدعي توثيق شعيرة الأضحية بالصور والفيديوهات ونشرها على الملأ؟ إن إحياء شعيرة الأضحية أمر ضروري ومحبب في الإسلام، وهو ركن من أركان التعبد التي تقرب العبد من ربه، ولكن في ظل التحديات الاجتماعية والنفسية التي تفرضها ظاهرة التصوير والنشر، وارتفاع منسوب العنف ضد الحيوان في مجتمعنا، ربما حان الوقت لإعادة التفكير في هذا السلوك بشكل جذري. قد يصبح الضرر الناتج عن نشر هذه المشاهد أعظم من إحياء الشعيرة الذي يحدث بالفعل في الواقع. فليس هناك نص شرعي يُلزم بتصوير الأضحية ونشرها، ولم تعرف الأمة الإسلامية على مر العصور مثل هذه الممارسات. بل إن الفقهاء قد أجمعوا على أن الأفضل في العبادات هو الإخفاء، إلا ما كان فيه إظهار للقدوة أو إظهار لشعائر الإسلام الضرورية التي لا تقوم إلا بالإظهار. والأضحية ليست من هذا القبيل، ففعلها هو الأساس، وليس توثيق فعلها. العبرة في هذه الشعيرة ليست في توثيقها المرئي الذي قد يشوبه الرياء ويُحدث الضرر، بل في إقامتها بشكل صحيح، وتوفر النية الصادقة الخالصة لوجه الله، وتوزيع لحومها على المحتاجين والفقراء، لتتحقق مقاصدها الاجتماعية والإنسانية. ربما آن الأوان لسن قوانين أو على الأقل إصدار فتاوى شرعية تحُث على عدم نشر هذه الصور والفيديوهات، وربما تضع عقوبات لمن يخالف، لأن المصلحة العامة تقتضي ذلك، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. يجب أن نتذكر أن الهدف الأسمى هو الحفاظ على هيبة الشعيرة وجمالها، وحماية المجتمع من الآثار السلبية التي قد تنجم عن سوء استخدام التكنولوجيا.

في الختام، إن الأضحية شعيرة عظيمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وجوهرها يكمن في التقوى والإحسان والستر. ومن هذا المنطلق، يجب أن نحرص أشد الحرص على ألا تتحول هذه العبادة الجليلة إلى مجرد صور ومقاطع فيديو تُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، مما قد يفقدها قدسيتها ويؤذي مشاعر الآخرين، بل ويسيء إلى صورة الدين الحنيف، ويُسهم في تدهور الوعي العام بقضايا الرفق بالحيوان في مجتمعنا. لنتذكر دائماً أن العبادة الخالصة هي ما يرضي الله، وأن أداءها في سر وخشوع هما ما يبرزان جمال هذه الشعائر ويحفظان لها هيبتها ويُبعدانها عن آفات العصر. فلنعد لـ الأضحية خصوصيتها التي تستحقها، ولنحافظ على روحها الأصيلة بعيداً عن ضجيج العالم الرقمي وفتنة المظاهر الزائفة. لنجعل من عيد الأضحى فرصة للتأمل في المعاني العميقة للتضحية، ولنركز على قيم العطاء والتكافل التي تجعله عيداً حقيقياً للقلوب والأرواح، وليس مجرد استعراض بصري يُنسي الهدف الأسمى.

د. نهال أحمد يوسف أبطال المشهد رغماً عنهم! الجارديان المصرية