مدحت الشيخ يكتب : العبث بصاحبة الجلالة


الصحافة — أو كما جرت العادة أن نُجلّها بلقب "صاحبة الجلالة" — لم تكن يومًا مهنة عابرة، ولا وظيفة تُدرج ضمن خانة المهن على استمارة حكومية. بل هي حالة وعي، ورسالة وجود، وسلطة لا تستمد شرعيتها من قرار رسمي، بل من ضمير الأمة ووعيها الجمعي. إنها القوة التي لا تحمل سلاحًا، لكنها تصنع الرأي، وتهز العروش، وتُنير الزوايا المعتمة حيث ينام الفساد مطمئنًا.
ولأنها كذلك، لم تكن أبدًا مهنة من لا مهنة له، ولم يكن الصحفي يومًا من يلهث وراء التقاط صورة في عزاء، أو يقتحم مجلسًا بلا دعوة، أو يقفز فوق سور الكلمة ليدخل حقلها بلا أدوات. لكننا اليوم أمام مشهد يُثير الحزن، بل القلق المشروع: صحافة تُستباح، ومهنة تُنهب هويتها، ونقابة تتثاءب بينما تُسحب البساط من تحت أقدامنا قطعة بعد أخرى.
لقد أصبح من المعتاد أن نرى من يقدّم نفسه باعتباره "صحفيًا" لمجرد امتلاكه بطاقة بلا غطاء قانوني أو مهني، أو صفحة على أحد المواقع التي تُباع وتشترى كالأكياس السوداء في الأسواق. هؤلاء لا يعرفون شيئًا عن القواعد الأولى: من هو مصدر موثوق، وما الفرق بين الرأي والتحريض، وكيف تُصاغ مقدمة خبر، أو تُصان كرامة مهنة.
الأخطر من ذلك أن التمييز بين الصحفي الحقيقي والدخيل بات مشوشًا في نظر العامة. لم يعد القارئ العادي يفرّق بين من يقف خلف تاريخه مقالات وملفات وتحقيقات، وبين من يقف خلفه فقط حساب إلكتروني وصفارة ادعاء. وهنا تكمن الأزمة الأخلاقية والمعرفية الكبرى، إذ تفقد المهنة صورتها أمام الناس، وتتحول من سلطة رقابية إلى "سوق حرة" لكل من يريد أن يكتب، أو يُشهر، أو يبتز، أو يصنع لنفسه مجدًا من وهم.
ولأن النقابة هي الحارس الطبيعي، فإن الصمت هنا جريمة. لا يليق أن نُبرر الفوضى بانفتاح الفضاء الرقمي، أو نسكت عن التشويه بحجة أن المهنة تتغير. فالتغيير لا يعني التفريط، والانفتاح لا يعني الانهيار، والتطور لا يعني أن نترك باب صاحبة الجلالة مواربًا لكل عابر سبيل.
لا نطلب كثيرًا، بل نطالب فقط بأن نُعيد للمهنة مكانتها، وللصحفي هيبته، وللمتطفلين حدودهم. نطالب بقانون صارم، بميثاق أخلاقي فاعل، بلجنة رقابية جادة، وبحملات توعية تعيد تعريف الصحافة كما كانت وكما يجب أن تكون.
وإن لم نفعل، فسنكون أول شهود الزور على زمن تُركت فيه صاحبة الجلالة وحيدة، تنهشها الأيدي المرتعشة، وتُستغل باسمها كل الأهواء.
إننا لا نكتب من باب النُصح المجاني، بل من حرص على الكيان ذاته. فالصحافة، إن تخلت عن كرامتها، خسر الوطن أحد أعمدة وعيه، وخسر المواطن صوتًا طالما دافع عنه حين غابت الأصوات.
وفي النهاية، سيبقى السؤال قائمًا: من يُنقذ المهنة من العبث؟ ومن يُنقذ الجلالة من استباحة لم تعد تُخفي نفسها خلف أقنعة؟ الجواب لن يأتي من الخارج، بل منّا، نحن أهل المهنة، إن قررنا أن نصحو... قبل فوات الكلمة.