شبراوى خاطر يكتب : فنجان القهوة الذي يحرك العالم لخدمتك.


لنفترض أنك ذات صباح، دخلت مقهى مجاور، لعملك أو منزلك، وما أن جلست، ورأيت ازدحام المكان بالزبائن من حولك من كل صنف وجنس وعمر ولون، واتاك النادل ليستعلم طلباتك، وطلبت فنجان من القهوة مع قطعة من الكيك. ولاحظت جلوس إثنان من الزبائن بجوارك، وبأيديهم أكواب من الكابتشينو الساخن يختلط حروف تناجيهم مع دخان برائحة القهوة النفاذة، وبينما أنا استمتع بأول رشفة من قهوتي بعد تناول قطعة من الكيك. جال في خاطري أن أتقمص شخصية "الخبير الاقتصادي" الذي يحاول أن يرى الواقع الاقتصادي لما يحققه فنجان القهوة للعالم.
فأنا الآن أقوم بدور شخصية "خبير اقتصادي" خفي يجلس بالقرب من كل هؤلاء الزبائن - فماذا يرى هذا الخبير الاقتصادي الخفي؟ وماذا يمكنه أن يخبرك؟
فإذا كنت أنت أحد هؤلاء الزبائن، قد تعتقد ببساطة أنك تستمتع بكابتشينو كثيف الرغوة، لكن الخبير الاقتصادي لا يراك وحدك – بل ويرى الكابتشينو أيضاً.
وهو يعلم أن بعض الأشخاص من أصحاب المقاهي، الذين عملوا على تقديم القهوة التي بين يديك، حققوا الكثير من المال، وبعضهم حقق القليل جدًا، وبعضهم يسعى للحصول على المال الذي في جيبك الآن. ويستطيع الخبير الاقتصادي (الذي هو أنا) أن يخبرك بمن سيحصل على ماذا، وكيف، ولماذا. وكلّي أمل أن تتمكن من معرفة ذلك بمجرد أن تنتهي من آخر رشفة في فنجانك قبل أن تغادر مكانك.
إن قهوتك تثير اهتمام "الخبير الاقتصادي" لسبب آخر: فهو لا يعرف كيف يصنع الكابتشينو، وهو يعلم أن لا أحد غيره يعرف ذلك أيضاً. فمن ذا الذي يستطيع أن يتفاخر بقدرته على زراعة البن وقطفه وتحميصه وخلطه، وتربية الأبقار وحلبها، ولف رقائق الفولاذ وتشكيل البلاستيك وتجميعه في آلة صنع الإسبريسو، وأخيراً تشكيل السيراميك في شكل كوب لطيف؟ إن الكابتشينو الذي يُصنع من أجلك، وانت تسمع صوت صريخ بخار الماء وتكثيف اللبن، يعكس نظام اقتصادي معقّد بشكل مذهل.
ولا يوجد شخص واحد في العالم قادر وحده على إنتاج ما يلزم لصنع الكابتشينو.
أن حبوب البُن يُعَّد من أكبر السلع تداولًا حول العالم، نظرا لكونه ثاني أكثر المشروبات استخدامًا بعد المياه، وتأتي أهميته الاقتصادية من احتواء سلسلة التوريد الخاصة بإنتاجه على العديد من المراحل، بداية من مرحلة زراعته وحصاده، مرورًا بمراحل تصنيعه، حتى يتم وصوله للمستهلك النهائي، وهناك ما يقرب من 25 مليون مُزارع وعامل في أكثر من 50 دولة حول العالم في صناعة البُن.
إن "الخبير الاقتصادي" يدرك أن كوب "قهوة الكابتشينو" هو نتاج نظام وجهد جماعي لا يُصدّق. وليس هذا فحسب، بل إن أحداً لا يتولى مسؤولية هذا النظام ولا الفريق الذي يديره. ولا تحاول فهم هذا النظام المعقد، وإذا واتتك الجرأة وسألت. أقول لك: إنه سؤال مضحك، ولكن
الإجابة مذهلة وهي: ـ لا أحد ـ.
عندما يصرف الخبير الاقتصادي انتباهه عن قهوتك وينظر حولك في المقهى، فإن التحديات التنظيمية تصبح أعظم. إن تعقيد النظام الذي جعل من عمل المقهى ممكن يفوق الوصف السهل: فقط فكر في القرون المتراكمة من التصميم والتطوير، من بذور القهوة التى تُنثر في الاراضي والجبال الخصبة، ونمو شجيرات البن، وآلاف المزارعين الذين يكدون لرعايتها وسقايتها وقطف حباته وجمعها وتعبئتها في أجولة، وتخزينها وتسويقها وبيعها وشحنها ونقل بياناتها إلى الدفاتر والبرامج التي تتعقب المخزون، ناهيك عن المعجزات اليومية لتنظيم توزيعها على البلدان والمقاطعات والمدن والأحياء والمقاهي والفنادق والمصانع من اجل تحميصها وطحنها وتعبئتها في عبوات مختلفة الانواع والأحجام، ثم تخزينها وتسليمها وتكديسها وإعادة بيعها .
إن هذا النظام يعمل جيدا بشكل ملحوظ. فعندما اشتريت هذا الكوب من الكابتشيتو ـ وربما فعلت ذلك دون أن تضطر إلى إعطاء التعليمات لنادل المقهي لكي يسارع إلى عامل القهوة أن يصنعه لك بالمواصفات التي تحبها. وربما لم تكن تعلم حتى أنك عندما غادرت منزلك هذا الصباح أنك تنوي تناول تلك القهوة في هذا المكان من هذا الحي في تلك المدينة. ولكن بفضل بعض السحر، اتخذ العشرات من الناس الإجراءات اللازمة لتلبية رغباتك غير المتوقعة: ويستطيع الخبير الاقتصادي أن يشرح مدى نجاح النظام، وكيف تحاول الشركات
استغلاله.
هذا نظام اقتصادي يشارك فيه معظم سكان الكرة الأرضية لكي يوفروا لك هذا الفنجان هذا الصباح، وكل صباح. نظام تعمل فيه إدارات الدول وإدارات الضرائب والجمارك واصحاب المزارع والمزارعين وجميع شبكات النقل والتوزيع والتسويق والمبيعات، ومصانع إنتاج منتجات القهوة بكل أنواعها وإضافتها، ومراكز البحث والتطوير، ومصانع إنتاج ماكينات التصنيع العملاقة، ومصانع مستلزمات التعبئة والتغليف، وماكينات المقاهي والمنازل، ومواقع عقارات المقاهي وخبراء البناء والديكور والإضاءة والأثاث، وشركات الإعلان والتسويق، ومستشاري تطوير الأعمال، وشركات البحوث والتطوير، وادوات تقديم القهوة من اكواب مختلفة وأواني مختلفة وملايين العاملين الذين يقدمون لك خدمة احتساء عدة رشفات من القهوة.
هذا هو النظام الاقتصادي الذي يدور حول الفنجان الذي احتسيته قبل إعادة الفنجان إلى ماكينة التنظيف لكي يعاد تقديمه ممتلأً لزبون آخر ينتظر تركك لمقعدك لكي يجلس عليه.
فهل ترى الوضع الآن بأنه مجرد فنجان من القهوة يحرك كل العالم لخدمتك.
*******