السيناريست عماد النشار يكتب : أمريكا الثانية وعاد الأولى .


بين صفحات التاريخ المنقوشة على جبين الزمن، تبرز حضارة عاد كدرس صارخ في عواقب طغيان القوة دون عدل، ففي سالف الدهر، سادت حضارة عاد الأولى، التي وصفها القرآن الكريم بأنها "إرَمَ ذاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ" (الفجر: 7-8)، حضارة كانت رمزا للقوة، الجبروت، والبنيان المتفرد، لكنها في نهاية المطاف، لم تصمد أمام سنة الله في الكون، لأن البغي لا يدوم، والظلم لا يخلد، فالأمم التي تغتر بقوتها وتنسى العدالة، كمن يبني قصراً على الرمال، لا يدوم إلا ما كتبه الله لها من مصير.
واليوم، في القرن الحادي والعشرين، تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية المشهد العالمي كقوة عظمى بلا منازع، تتفوق عسكريًا، اقتصاديًا، وثقافيًا، وتفرض سطوتها على العالم شرقًا وغربًا، لكن هل يمكن القول إن أمريكا تمثل صورة عصرية لـعاد الثانية،وهل مصيرها سيكون كمصير عاد الأولى؟
قوم عاد سكنوا الأحقاف، وهي منطقة بين اليمن وعمان، كانوا من أعظم الأقوام في القوة الجسدية والعمر المديد، وبنوا حضارة عملاقة أبهروا بها من حولهم، لكنهم استخدموا قوتهم في الطغيان لا في العدل، ورفضوا دعوة نبيهم هود عليه السلام إلى التوحيد وترك الظلم،يقول تعالى عنهم، "فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ" (فصلت: 15)
وكان عقابهم عاصفة ريحية جبارة، استمرت سبع ليالٍ وثمانية أيام، اقتلعتهم من جذورهم، كما تقتلع الأشجار، وقضت على هذا الجبروت،ليكونوا عبرة لمن يأتي بعدهم، "وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا" (الحاقة: 6-7)
تبدو الولايات المتحدة الأمريكية المعادل العصري لعاد الأولى ، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فرضت نفسها كقطب أوحد في العالم، قوتها العسكرية غير مسبوقة في التاريخ البشري، وقواعدها تنتشر في أغلب قارات الأرض. اقتصادها يسيطر على أسواق العالم، الدولار يتحكم في تجارة الكوكب.
لكن، ومع هذه السيطرة، برزت سمات طغيان عالمي،تدخل في شؤون الدول، إشعال الحروب، فرض نماذج ثقافية واقتصادية قد تضر أكثر مما تنفع، دعم أنظمة قمعية حينًا، واستغلال ثروات الشعوب أحيانًا،يقول تعالى: "وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا" (الكهف: 59)
هذا ليس حكمًا قاطعا، بل دعوة للتفكر، حين تبتعد القوة عن ميزان العدالة، وتصبح أداة لتغذية الهيمنة والتسلط، فإنها تتحول إلى عبء على أصحابها لا نعمة.
وسمات التشابه تبدو متطابقة ، من حيث الاستكبار في الأرض، كما استكبرت عاد وقالت: "من أشد منا قوة"، تتفاخر أمريكا بقوتها ونفوذها،وتتجاهل سنن التاريخ، عاد أنكرت أن هناك من يمكن أن يزيلها، وأمريكا اليوم تتصرف طول الوقت بنفس المنطق، وخاصة بعد الصعود الثاني لترامب، متجاهلة سقوط إمبراطوريات سبقتها،الاعتماد على المادة فقط،فكلاهما بنى حضارته على القوة المادية دون اعتبار للبعد الروحي أو الأخلاقي،كذلك نشر الفساد بدل الإصلاح، عاد كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون، كما قال تعالى: "أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ" (الشعراء 128-129)
لا نملك أن نجزم بمصير أي أمة، فالله وحده يعلم الغيب، ويملك مفاتيح الفناء والبقاء، لكننا نملك أن نتدبر، وننظر في سنن التاريخ، ونتأمل في آيات الله،فالعبرة لمن يعتبر، وليست رسائل حرائق كاليفورنيا عنهم ببعيد ، والتي فاقت خسائرها المادية أضعاف مايحدث في غزة على مدار عامين بدعم مباشر من الأمريكان.
إن من سنن الله في الكون أن القوة إذا طغت، وأعرضت عن الحق، وجعلت من نفسها إلهًا في الأرض، فإن نهايتها حتمية،عن أَبي موسى قَال: قالَ رَسُولُ اللهﷺ: إِنَّ اللَّه لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(هود 102) .
وأخيرًا، لا يخفى على أحد حال أمتنا المتردي اليوم ، التي تئن بين وهن قاتل وواقع مظلم ، ولا سبيل لخلاصها إلا بجهد صادق وعمل مستمر، ينبع من قلب مؤمن وإرادة لا تلين.
ليس لها من دون الله كاشفة.