دكتورة نهال أحمد يوسف تكتب: ما بعد الصورة التقليدية!


تتعالى الهمسات حول أدوار الرجل المتغيرة في المجتمع المصري، لا سيما فيما يتعلق بالمسؤوليات الأسرية وجوهر الرجولة، لتُطلِق شرارة حوار مجتمعي حاسم يتطلب تحليلاً موضوعياً، بعيداً عن التعميمات الشاملة أو الأحكام المسبقة. يُعد المشهد الاجتماعي والاقتصادي المصري -شأنه شأن العديد من الدول- لوحة ديناميكية من التغيير المتسارع. تُلقي هذه التحولات العميقة بظلالها الطويلة حتماً على الهياكل الأسرية التقليدية والتوقعات المتأصلة لكل من الرجال والنساء. تُعد الضغوط الاقتصادية -على سبيل المثال- خِصماً هائلاً. إن الارتفاع المستمر لتكاليف المعيشة، وشبح البطالة، والسعي المضني للحصول على فرص عمل مستقرة، يفرض ضغوطاً هائلة على الرجال الذين طالما ارتبط دورهم التقليدي بتوفير الاحتياجات المادية الأساسية للأسرة. يمكن لهذا العبء الثقيل أن يؤدي إلى تآكل إحساس الرجل بالكفاءة وهويته بوصفه مُعيل، مما يؤثر بشكل خفي على اهتمامه وقدرته على إدارة شؤون الأسرة. بالتزامن مع ذلك، فإن المشاركة المتزايدة للمرأة في سوق العمل وحصولها على مستويات تعليمية متقدمة تعيد رسم الديناميكيات الداخلية للوحدة الأسرية؛ لم يعد الرجل هو المصدر الوحيد للدخل. هذا التحول العميق يستلزم إعادة تعريف عميق للمسؤوليات المشتركة، وغالباً ما يمثل تحدياً كبيراً للتكيف لبعض الرجال الذين اعتادوا على نموذج أكثر تقليدية للأدوار النوعية الذكورية.
أبعد من التحولات الملموسة في النماذج الاجتماعية والاقتصادية، تلعب وسائل الإعلام بأشكالها المتنوعة: التقليدية والرقمية، دوراً هائلاً في تشكيل التصورات والقيم المجتمعية. يُلاحَظ تطور خفي ولكن واضح في تصوير مفاهيم الرجولة والعلاقات الأسرية، يختلف غالباً عن الصور النمطية السائدة. تعرض وسائل الإعلام، المحلية والعالمية، في كثير من الأحيان تكرارات متنوعة للرجولة قد لا تتوافق بالضرورة مع التوقعات الراسخة، مما يزرع درجة من التنافر المفاهيمي. علاوة على ذلك، أدى الانتشار الواسع لمنصات التواصل الاجتماعي إلى تسريع انتشار أنماط الحياة والقيم المتنوعة، مما يعرّض الأفراد بمن فيهم الرجال، لسيل مستمر من المقارنات، وأحياناً توقعات غير واقعية. يمكن أن يؤدي هذا التفكير الرقمي المستمر إلى تآكل خفي للرضا عن الأدوار التقليدية أو يدفع إلى البحث عن تعريفات ذاتية جديدة.
لا تقتصر التحولات التي تجتاح المجتمع المصري المعاصر على الجوانب الاقتصادية أو الثقافية فحسب؛ إنما تمتد بعمق إلى النسيج النفسي والاجتماعي للرجل الحديث. ففي مواجهة التوقعات الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة، يجد بعض الرجال أنفسهم في تحدٍّ حاد لتحديد هويتهم ودورهم الجديد في الأسرة والمجتمع. يمكن أن يؤدي هذا الغموض إلى الارتباك أو في بعض الحالات، الانسحاب من المسؤوليات التقليدية. ويواجه الرجال غالباً ضغوطاً نفسية كبيرة ناتجة عن هذه التحولات المجتمعية السريعة، ويمكن أن أقول أنهم يفتقرون إلى آليات دعم كافية للتعبير عن هذه الأعباء أو التعامل معها بفعالية. يمكن أن تؤثر هذه الضغوط غير المعالجة بعمق على صحتهم العقلية وقدرتهم على المشاركة الهادفة داخل أسرهم ودوائرهم الاجتماعية. والأهم، هو أن مفهوم "الرجولة" نفسه يمر فعلاً بتحول عميق. فبعد أن كان مرادفاً للحماية الثابتة والتوفير المادي الصارم، أصبح يتسع مفهوم "الرجولة" الآن ليشمل سمات مثل المرونة، والشراكة، والدعم العاطفي، والمشاركة الفعالة في تربية الأبناء. وبالتالي يمكن أن يمثل التكيف مع هذه التعريفات المتطورة مهمة شاقة للكثيرين.
تُعد ظاهرة الطلاق المتعدد، التي تلوح في الأفق الاجتماعي، بعداً آخر يستحق التأمل العميق في سياق تحولات دور الرجل. ففي مجتمع كانت الأسرة فيه دائماً النواة الصلبة، أصبحت وتيرة الطلاق المتزايدة، وخاصة حالات الطلاق المتكرر ربما لنفس الرجل، تُحدِث شروخاً عميقة. وتبرُز معها ظاهرة أكثر إيلاماً وهي "تطليق الأطفال قبل الزوجات"، بمعنى أن الرجل قد يتخلى عن مسؤولياته الأبوية أو يقلل من اهتمامه بأطفاله بعد الطلاق، متحججاً -بشكل غير معلن- بانتهاء العلاقة الزوجية، وكأن علاقة الأبوة هي مجرد امتداد لعلاقته بالزوجة، وليس رابطاً أبدياً. هذه الظاهرة لا تُطَلَّق فقط الزوجة من رباط الزواج، بل يُطًلَّق الأطفال من مظلة الحماية الأبوية المستقرة. تترتب على هذه الظاهرة نتائج نفسية واجتماعية وخيمة على الأطفال والأسرة بأكملها. فعلى الصعيد النفسي، يعيش الأطفال المُطَلَّقون من آبائهم فعلياً حالة من الهجر العاطفي، مما يؤدي إلى شعور عميق بالرفض وعدم الأمان. قد تنشأ لديهم اضطرابات سلوكية مثل العدوانية أو الانطواء، وصعوبات في بناء علاقات صحية في المستقبل، نظراً لغياب نموذج الأب بوصفه ركيزة للاستقرار العاطفي والاجتماعي. قد يواجهون صعوبة في الثقة بالآخرين، وتتأثر صورتهم الذاتية بشكل سلبي، مما قد يقودهم إلى الاكتئاب والقلق في مراحل لاحقة من حياتهم. اجتماعياً، يؤدي غياب الأب الفعلي إلى تفكك بنية الأسرة الممتدة، فالعلاقة لا تقتصر على الزوجين لكن تتعدّاها إلى الأجداد والأعمام والعمات. يجد الأطفال أنفسهم في بيئة غير مستقرة، تتنقل بين بيوت متفرقة، وقد يفتقدون للقدوة الذكورية الإيجابية التي تشكل جزءاً أساسياً من تكوين شخصيتهم. كما أن الأم، التي تتحمل -في أغلب الحالات إن لم يكن جميعُها- العبء الأكبر للتربية والكفالة المادية بعد الطلاق، تواجه ضغوطاً مضاعفة، مما يؤثر على قدرتها على تقديم الدعم الكافي لأطفالها، ويدفعها إلى البحث عن دخل إضافي على حساب وقتها مع الأبناء. فيُصبح مفهوم الأسرة المشتركة، التي يجب أن تستمر حتى بعد الانفصال غائباً، مما يعزز فكرة أن الطلاق هو نهاية كل أواصر العلاقة، وليس مجرد تحول في شكلها.
أجد إن أي نقاش حول "عيوب" أو "تحول" دور الرجل في المجتمع المصري يتطلب منظوراً شمولياً، يُقر بالتفاعل المعقد للعوامل المتعددة الأوجه. لا يمكن اختزال هذه الظواهر في أحكام تبسيطية؛ إنما يجب تحليلها بدقة ضمن النسيج الأوسع للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية. ومن الضروري نبذ لغة اللوم، وإن كان هذا فعلاً صعباً بالنظر إلى بما يفعله أغلب الرجال المصريون حالياً وخصوصاً فيما يتعلق بعلاقاتهم المشينة بأطفالهم بعد الطلاق، و لكن ربما التحول إلى الانخراط الموضوعي، أن يؤتي ثماره على المدى البعيد. وهذا يدعو إلى بحث أكاديمي وعملي دقيق، باستخدام منهجيات علمية قوية لتحليل هذه الظواهر، وتحديد أسبابها الكامنة وتداعياتها المتتالية على الوحدة الأسرية والبناء المجتمعي. يجب أن تكون أي استنتاجات مستندة بقوة إلى بيانات موثوقة وتحليل أكاديمي سليم. فإن تعزيز الحوار المجتمعي البناء أمر بالغ الأهمية، وتشجيع التبادل المفتوح والموضوعي بين مختلف أصحاب المصلحة في المجتمع، بما في ذلك الرجال والنساء والخبراء. يجب أن يهدف هذا الحوار إلى تشريح التحديات المتأصلة في الأدوار النوعية المتغيرة ووضع استراتيجيات جماعية للتكيف بطريقة صحية وإيجابية تخدم المصالح الفضلى للأسرة والمجتمع ككل. والأهم هو توفير آليات دعم قوية للرجال أمر حيوي لمساعدتهم على التنقل في هذه التوقعات المتغيرة، سواء من خلال برامج التوعية، أو الدعم النفسي، أو تنمية المهارات في مجالات الشراكة الأسرية والمسؤولية المشتركة.
وأرى أن تعديل نماذج الرجل المصري في المستقبل، بحيث يعود لكل منهم -الرجل والمرأة- دوره الفعلي المطلوب وليس الدور الموجود في الخيال الشعبي، يتطلب الأمر مقاربة متعددة الأبعاد. فربما يجب أن تعكس المناهج التعليمية والإعلامية صوراً أكثر واقعية وتوازناً للرجولة، تتجاوز الأطر التقليدية الصارمة. يجب أن تُبرز قيماً مثل المسؤولية المشتركة، الدعم العاطفي، المشاركة الأبوية الفعالة، والقدرة على التكيف. يمكن أن تُقدم نماذج إيجابية لرجال يجمعون بين النجاح المهني والمشاركة الأسرية الحقيقية، والتعبير عن المشاعر بصدق. كما إنه يجب إطلاق برامج توعية وتأهيل موجهة للشباب قبل الزواج وللرجال المتزوجين، تركز على بناء المهارات الحياتية والأسرية. تتضمن هذه البرامج ورش عمل حول التواصل الفعّال، إدارة الصراعات، التربية الإيجابية، وأهمية الشراكة الحقيقية في تحمل الأعباء الأسرية. كذلك يجب أن تُعالج بشكل خاص الآثار المدمرة للطلاق المتعدد على الأطفال، وتُعزز مفهوم الأبوة المستمرة حتى بعد الانفصال. يُتوقع غالباً من الرجال أن يكونوا أقوياء لا يتأثرون بالضغوط، مما يمنعهم من طلب المساعدة النفسية عند الحاجة. كما إنه يمكن توفير منصات آمنة وبيئات داعمة للرجال للتعبير عن تحدياتهم وقلقهم دون وصمة عار، وتقديم استشارات نفسية واجتماعية متخصصة لمساعدتهم على التكيف مع الأدوار المتغيرة وتحديات الحياة الحديثة. أخيراً، يمكن للحكومات والمؤسسات أن تلعب دوراً في تعديل نماذج الرجولة من خلال سَن سياسات تشجع على مشاركة الأب في حياة أطفاله. على سبيل المثال، يمكن إعادة النظر في قوانين الإجازات الأبوية لتكون أطول وأكثر مرونة، مما يتيح للأب قضاء وقت أكبر مع الرضع والأطفال الصغار، وتعزيز دورهم في الرعاية اليومية. إن الفهم الموضوعي لهذه التحولات العميقة هو الخطوة الأساسية نحو بناء مجتمع أكثر توازناً، مجتمع يُمكّن كل من الرجال والنساء من الاضطلاع بأدوارهما بفعالية وإيجابية وسط متطلبات التحديات المعاصرة. والسؤال الذي أطرحه الآن: هل نحن مستعدون لإعادة تشكيل مفهوم الرجولة ليكون أكثر قرباً من الواقع واحتياجات الأسرة المصرية الحديثة؟