د. محمد الطواب يكتب : المكسور”... العزف على أوتار النفس البشرية


في روايته "اللحن المكسور"، يأخذنا الروائي الكبير نشأت المصري إلى عالمٍ تتداخل فيه النغمة مع الصرخة، والحقيقة مع الوهم، والحب مع الخذلان. هي ليست رواية بوليسية بالمعنى التقليدي رغم ان الاغتيال او القتل حدث رئيسى و مؤثر فى سياق الرواية ،و لكن نصّ الرواية نص نفسي–اجتماعي يرصد عطب الإنسان من الداخل، و يُحمّله أعباء مجتمعٍ يعيش في كواليس الصمت والمواربة.
اللحن المكسور كرمز فلسفي
العنوان بحد ذاته مفتاح الرواية: فـ"اللحن المكسور" ليس مجرد استعارة موسيقية، بل تعبير عن النفس البشرية حين تفقد انسجامها. و دكتورة دلال تمثل هذا اللحن؛ بمحاولاتها البريئة لصناعة جمال داخلي في عالم يرفضها. وحين ينكسر هذا اللحن، لا يبقى سوى الصمت و الخذلان، والخراب الداخلي.
الجريمة تتجاوز القتل المادى
تدور أحداث الرواية حول مقتل الدكتورة دلال، وهي موسيقية اكاديمية ومثقفة مرهفة الحس، قُتلت في ظروف غامضة، لتبدأ رحلة البحث عن الجاني. لكن الاستاذ نشأت المصري لا يقدّم لنا جريمة سطحية، بل يستخدمها كمدخل لكشف التصدعات العاطفية و الطبقية والعقلية في شخصيات الرواية والمجتمع ككل.
فالسؤال الأساسي لم يكن: "من قتل دلال ؟"، بل "ما الذي قتلها؟ ومن كان شريكًا في ذلك بالصمت والتواطؤ و الإهمال؟".
الرواية من النوع الذى يستعصى على التصنيف... فهي ليست رواية بوليسية. وهى رواية فلسفية... ونفسية يُغوص الكاتب في أعماق اعماق شخصياته التى رسمها بمنتهى الدقة ، و هو لا يغوص فى اعماقهم كمتهمين أو كضحايا، بل ايضا ككيانات تتصارع مع الداخل والخارج.
شخصية دلال... امرأة تهزمها النغمة
تمثل دكتورة دلال روحًا حساسة تتوق إلى الانسجام، شخصية غير مستقرة، تتحدث بلغة مكسورة أحيانًا، وأحيانًا بكلمات غريبة حكيمة لكنها تعيش في عالم لا يسمع سوى الصخب. و هى مضطربة الهوية لا يبدو أن لها ماضيًا واضحًا، ونتعرف على هويتها من خلال ما يقوله الآخرون عنها
تعيش كأنها ترى ما لا يراه الآخرون، أو تسمع ما لا يُقال، مما يعكس نوعًا من انواع المرض المسمى بالذهان أو الانفصال عن الواقع دكتورة دلال هي "نغمة شاذة"، لكنها ضرورية لاكتمال المعزوفة.
جعل منها الكاتب معادلاً للراوي الموضوعي أحيانًا؛ فهي تحلّل الشخصيات وتربط بين خيوطها لكنها لا تنفرد بالحقيقة، مما يجعلها تشاركنا حيرتنا فيما يحدث لها و لشخصيات الرواية الاخرين . دكتورة دلال تمثل محاولة لترميم "اللحن المكسور" عبر المنطق، لكن محاولتها تفشل جزئيًا أمام تعقيدات الوجدان و اللاوعي.
حواراتها تكشف أحيانًا عن إيقاعات داخلية مكسورة بداخلها هي نفسها، خاصة حين تبدأ بالشك في استنتاجاتها أو تدخل في حالة تأمل ذاتي.
زوجها "عمر" رجل عقلاني شديد البرود، لم يُشبع عاطفتها، ولم يعبأ بموسيقاها الداخلية مما دفعها الى الدخول في علاقة عاطفية مع الدكتور "نزار"، الذي تبيّن لاحقًا أنه محتال و نرجسي. وانتهى بها الحال لتصبح ضحية لجريمة عبثية، نفذتها "هدى" الخادمة التي تُمثل الغلّ و الحقد الطبقي الذى ينسى افضال من احسنوا اليه و آواهم فى بيتهم وتمثل ايضا الانفعال المنسي في المنزل.
اللغة والبناء الفني
كتب نشأت المصري الرواية كعادته او كما يؤكد هو دائما انه لا يخلو اى عمل ادبى من الشعر فلذلك فقد كتبها بلغة شاعرية مفعمة بالصور والرموز لغة شاعرية/موسيقية، تتماوج بين الغناء والصمت، تخترق النص بروح إبداعية.، تتداخل فيها أصوات السرد مع التأمل النفسي. لشخصياته المرسومة بعناية فائقة ، لا يقدّم فيها الشرير والطيب بشكل تقليدي، بل يُظهر هشاشة الإنسان في مواجهة اختياراته، وظروفه، و واقعه الطبقي والاجتماعي. و باسلوب فلسفي جذاب ؛ يطرح تساؤلات حول الانسجام بين الذات والواقع، وتأثير الصمت والموت
الرواية فى حد ذاتها بناء جمالي يستقطب القارئ داخليًا، و يأخذه و يحلق به بعيدا فى افاق اخرى تحرره من التلقي السطحى الذى ينتابنا كقراء احيانا حين تكون المادة المقرؤة ليست جاذبة بالقدر المطلوب
** الرؤية النفسية و الدرامية
تميّزت الرواية بقدرتها على تحليل دوافع الشخصيات بعمق نفسي ملموس. لم تُختزل هدى الخادمة في دور "القاتلة"، بل كُشفت كنتاج للغيرة الطبقية والكبت الطويل. كذلك (نزار ) لم يكن مجرد مجرم، بل شخصية مهووسة بنفسها يهتم بمظهره جدا يخاف من الفضيحة أكثر من خوفه من الذنب الذى اقترفه فى حق نفسه و المجتمع .
**شخوص الرواية
الدكتور عمر (زوجها)
زوجها، أستاذ جامعي بارد المشاعر، يمثّل العقل الجامد و المنفصل عن العاطفة.، العلاقة بينه وبين دلال علاقة زوجية خاوية، تفتقر للدفء والدعم النفسي.، فشل في احتوائها فبحث عما افتقدته عن غيره ، و اهماله لها و فشله فى احتوائها جعله شريكًا في انكسارها و القضاء عليها ، وإن لم يكن قاتلًا مباشرًا. ، كانت علاقته بدلال: علاقة زواج رسمي بلا روح، تسبب في فراغها العاطفي، و بتجاهله ساهم في انهيارها.
باهر
فنان حساس، او كما كان يتمنى هام بدلال حبًا، وفهم لغتها العاطفية عبر الموسيقى. وكان يمثل لها الأمل العاطفي في حياتها ، لكنها لم تكتمل معه. لاسباب عنده هو شخصيا و مع ذلك فقد ظل وفيًا لها حتى بعد موتها، وعزف مرثية لحب لم يكتمل. علاقته بدلال: عاطفية، غير مكتملة، رمزية — فهمها حين لم يفهمها أحد.
الدكتور نزار
شخصية نرجسية و مزيفة، افاق دخل حياة دلال بإعجاب ظاهري. و زور مشاعره كما زوّر شهاداته و ادّعى لنفسه مكانة علمية ليست حقيقية ، و أراد التقرّب منها لغرض استعراضي. و لما شعرت دلال بحقيقته، أصبح يهددها و يتوعدها حتى لا تفشى سره وربما حرّض على قتلها أو فكّر في ذلك. و علاقته بدلال ، علاقة خداع مزورة ، كانت على وشك أن تكون عاطفية لكنها انكشفت وانهارت.
هدى (الخادمة)
هى خادمة مقيمة في بيت دلال، بدا عليها الإخلاص في الظاهر. لكنها كانت تمور بالغيرة والحقد الصامت، وربما كانت تخفى مشاعر خفية تجاه "عمر". و في النهاية، يتضح أنها هى من قتلت دلال، بدافع الحقد أو الغل و ايضا بتحريض غير مباشر من نزار. و علاقتها بدلال: بدأت كخادمة وفية، وانتهت كقاتلة صامتة تسكن الظل.
فادي (ابن دلال)
مراهق مضطرب نفسيًا، حساس جدًا، أقرب لشخصية متأرجحة. تأثر بشدة بموته والدته، وكان يراها النغمة الوحيدة الصافية في حياته. و يمثل الجيل الجديد الذي تكسّرت أمامه كل مرجعيات الأمان والحنان. علاقته بدلال: الابن المخلص، أقرب الأرواح لها، ومرآة لانكسارها الحزين.
سوزان وهند (زوجتا نزار)
شخصيتان هامشيتان ظاهريًا، لكنهما تشكلان خلفية كاشفة لخداع نزار. تمثلان الغفلة أو الخضوع، و كأنهما انعكاس لما كانت دلال ترفض أن تكونه.
خاتمة
رواية "اللحن المكسور" ليست فقط قصة جريمة، بل مرآة لما يحدث عندما نصمت طويلًا عن الكسر، و نخفي الشرخ خلف واجهات البرودة والعقلانية. لقد كتب الروائى الاستاذ نشأت المصري نصًا ممتلئًا بالأسئلة لا بالإجابات، يفرض على القارئ أن ينظر إلى الداخل لا إلى الخارج.
إنها رواية تدعونا لنفكّر: هل نحن حقًا نعزف ألحانًا صادقة؟ أم أن ما نظنه موسيقى... ليس إلا صدى لانكساراتنا؟ اللحن المكسور و تقدم الرواية تجربة سردية فريدة، تقف على الحد الفاصل بين التميّز الفني والاستكشاف الفلسفي