الأربعاء 25 يونيو 2025 05:52 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : تداعيات الحرب في إسرائيل: هجرات سرية وعلنية وانهيارات نفسية

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

لم تكن الحرب الأخيرة على غزة مجرد مواجهة عسكرية أو عدوان دموي كالعادة، بل كشفت عن تصدعات عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، بدأت تظهر آثارها على شكل هجرات سرية وعلنية، وانهيارات نفسية غير مسبوقة، وضياع للبوصلة الأمنية والسياسية والاجتماعية.

فمنذ اندلاع الحرب، تلقت إسرائيل صدمات متتالية، ليس فقط من حجم الصمود الفلسطيني، بل من الواقع الجديد الذي فرضته المقاومة، والذي أربك الحسابات الإسرائيلية وأدخل المجتمع برمته في حالة من الرعب والارتباك والقلق الوجودي. وتجلت هذه الحالة في نزوح عشرات آلاف الإسرائيليين من المدن الحدودية، وفي تدفق آخرين إلى مطارات أوروبا في هجرات جماعية بعضها موثق، وبعضها الآخر تمّ بصمت وبتكتم شديد خوفًا من التنديد الشعبي أو العقاب السياسي.

ما يحدث داخل إسرائيل اليوم ليس مجرد "أزمة أمنية"، بل أزمة هوية ووجود. فالخطاب الصهيوني الذي طالما روّج بأن إسرائيل هي "الملاذ الآمن لليهود"، تهاوى أمام صور الجنود المرتبكين، والمستوطنين الفارين، والمدارس المغلقة، والملاجئ التي لا تكاد تكفي، والمجندين الذين يعانون من صدمات ما بعد المعارك، والآلاف من الجنود الذين رفضوا الخدمة أو انسحبوا بعد أيام قليلة.

تشير التقارير النفسية إلى أن هناك آلاف الحالات من الاكتئاب والهلع والخوف المزمن في صفوف الإسرائيليين، خصوصًا الأطفال والنساء الذين عايشوا أصوات الإنذارات وأهوال الصواريخ. بل إن هناك مدارس ومستشفيات خصصت وحدات كاملة للعلاج النفسي لما بعد الصدمة، في ظل ارتفاع نسب الانتحار والانهيار العصبي بين الجنود والمستوطنين.

وعلى الصعيد الداخلي، تواجه الحكومة الإسرائيلية تآكلاً خطيرًا في ثقة الشارع، حيث تزايدت الاحتجاجات والانقسامات، وخرجت خلافات الأحزاب والصقور السياسيين إلى العلن، في مشهد يُنبئ بأن وحدة الدولة التي بُنيت على أسس قمعية واستيطانية تتفكك من الداخل.

الهجرات اليهودية المعاكسة، والتي كان يُنظر إليها سابقًا كظاهرة نادرة، أصبحت الآن حقيقة واقعة. عشرات العائلات قدمت طلبات لجوء في أوروبا، وبدأت تبيع ممتلكاتها تدريجيًا، خشية من تصاعد العمليات، أو الدخول في حرب طويلة الأمد تستنزف أرواحهم واقتصادهم ومستقبلهم. أما من لم يتمكن من مغادرة البلاد فعليًا، فقد غادرها نفسيًا، بعد أن فقد الأمل في الأمان.

لقد قلبت هذه الحرب المعادلة رأسًا على عقب. فإسرائيل التي كانت تتفاخر بسيطرتها على كل شيء، أصبحت حائرة، باحثة عن مخرج، مستنجدة بالغرب والولايات المتحدة، ومرتبكة أمام صورة المقاومة التي أربكت توازنها الأمني وزعزعت صورتها أمام العالم.

إن ما يجري في الداخل الإسرائيلي ليس إلا بداية لانهيار كبير، فقد أدرك الإسرائيلي العادي – ولأول مرة – أن وجوده على هذه الأرض ليس دائمًا، وأن ما بُني على باطل لا يمكن أن يستمر، وأن الدم الفلسطيني، مهما صمت عنه العالم، لن يذهب هدرًا، بل سيتحول إلى لعنة تلاحق كل من دعم العدوان والاحتلال.

لقد كشفت الحرب أن إسرائيل لا تحارب على جبهات القتال فقط، بل تحارب داخليًا في جبهات أكثر فتكًا: جبهة الانهيار النفسي، وجبهة النزوح، وجبهة فقدان الثقة، وجبهة التفكك المجتمعي، وهي حروب أشد قسوة من الصواريخ والقنابل، لأنها تفتك بالجسد من داخله وتُسقطه صامتًا دون طلقة واحدة.

وهنا يجب على الشعوب العربية والإسلامية أن تدرك أن الصمود ليس فقط في ميدان المعركة، بل في الثبات على الموقف، وفي كشف زيف الرواية الصهيونية، ومواجهة آلة التضليل العالمي التي تحاول تزييف الحقائق. إن العدو ينهار من الداخل، وما نراه من ارتباك وخوف ليس إلا البداية، والتاريخ لا يرحم من فقد توازنه أمام شعوب تدافع عن أرضها بصدور عارية وقلوب عامرة بالإيمان.

والأيام القادمة كفيلة بأن تُظهر من هو الأقوى، ومن سينهار أولًا، ومن سيغادر الأرض طواعية، قبل أن تخرجه منها ضربات التاريخ.

حسين السمنودى تداعيات الحرب في إسرائيل: هجرات سرية وعلنية وانهيارات نفسية الجارديان المصرية