د. نهال أحمد يوسف تكتب : ظاهرة ”الهبد”


في عصر تتسارع فيه وتيرة تدفق المعلومات بشكل غير مسبوق، وتتعدد قنواتها بدءاً من منصات التواصل الاجتماعي اللانهائية وصولاً إلى برامج التحليل التلفزيونية التي تملأ شاشاتنا، بات من اللافت للنظر والمثير للقلق تفشي ظاهرة "الهبد" و"الأي كلام". فلقد تحول كل من هب ودب إلى "محلل" يدلي بدلوه في كافة الشؤون، من أدق تفاصيل السياسة والاقتصاد إلى أعقد النظريات العلمية والفلسفية، حتى وإن كان يفتقر إلى الكفاءة الحقيقية أو المعرفة المتخصصة التي تؤهله لذلك. لم يقتصر الأمر على مجرد إبداء الآراء السطحية، إنما امتد ليطال قامات فكرية ومرجعيات علمية راسخة، تُكال لها الاتهامات غير المبررة أو تُفسر مفاهيمها بشكل مغلوط وغير سليم، مما يثير تساؤلات جدية حول مستقبل المعرفة، الموثوقية، وحتى البناء الثقافي لمجتمعاتنا.
إن تضخم عدد "المحللين الهبيده" الجدد في الفضاء الرقمي والإعلامي يعكس تحولاً جذرياً في مفهوم المرجعية المعرفية والسلطة الفكرية. فبعد أن كانت المعرفة حكراً على ذوي الاختصاص والخبرة المتراكمة عبر سنوات طويلة من الدراسة والبحث والتدقيق، أصبحت اليوم متاحة (أو هكذا تبدو) لكل من يمتلك هاتفاً ذكياً واتصالاً بالإنترنت وشجاعة للتحدث أمام الكاميرا. هذه الديمقراطية الزائفة للمعلومة، التي تفتح الأبواب على مصراعيها للجميع، أدت في كثير من الأحيان إلى تآكل قيمة الخبرة الحقيقية، حيث يُمنح الصوت الأعلى أو الأكثر انتشاراً على المنصات الرقمية ذات الأهمية، بغض النظر عن عمق محتوى الرسالة أو مصداقية قائلها. في السياق المصري، على سبيل المثال، نشهد كيف أن قضايا معقدة وحساسة تتطلب فهماً عميقاً للجوانب التاريخية، الاقتصادية، الاجتماعية، أو حتى النفسية، تُختزل في تحليلات تبسيطية مفرطة أو تعليقات عابرة لا تستند إلى أساس علمي. ينخرط فيها أفراد لا يملكون أدنى مقومات التحليل العلمي أو المنهجية البحثية، ومع ذلك يجدون صدى كبيراً لدى جماهير واسعة، ربما لسهولة الطرح أو لتطابق ما يقدمونه مع تصورات مُسبقة لدى المُتلقي، أو حتى لاستغلالهم لبعض المشاعر الجماهيرية. هذا يطرح تحدياً خطيراً في تشكيل الوعي العام، حيث تصبح الحقائق نسبية، والمعلومة الصحيحة تختلط بالخطأ والشائعة بشكل يصعب التمييز بينهما على المتلقي العادي، مما يعوق قدرته على التفكير النقدي واتخاذ القرارات المستنيرة.
ما يثير القلق بشكل خاص في هذه الظاهرة المتنامية هو استهداف بعض المؤثرين لـ"القديم" أو "التراث المعرفي"، والقامات الفكرية والعلمية التي أرست أسس المعرفة في مجالاتها المختلفة، سواء في العلوم، الفلسفة، الأدب، أو الفقه. هذا ليس دفاعاً عن الثبات والجمود أو التمسك الأعمى بالماضي لمجرد أنه قديم، إنما هو إيمان راسخ بأن القديم هو الأساس الصلب الذي يبنى عليه الجديد، وهو نقطة الانطلاق التي لا يمكن تجاهلها أبداً. فالفكر والعلم يسيران في دائرة متصلة ومترابطة؛ فكل تقدم أو نظرية جديدة هي إما إثبات وتطوير لما سبق من أفكار، أو نفي له بناءً على أدلة وبراهين ومنهجية علمية سليمة أثبتت بطلان الفكرة السابقة. هذه هي طبيعة التطور المعرفي البنّاء. لكن ما يحدث حالياً هو محاولة ممنهجة لـ"هدم" هذا الأساس، بنشر أفكار قد تكون هدّامة لكل ما هو قائم ومستقر، بغية إثبات صحة أفكار قد تكون ركيكة أو غير مكتملة، أو حتى لغرض لفت الانتباه وزيادة المتابعين. الأمثلة على ذلك كثيرة، حيث قد يظهر شخص على إحدى المنصات ليُلقي باتهامات جزافية على نظرية علمية راسخة استغرقت عقوداً لتثبيتها، أو يفسر نصاً تراثياً بمعانٍ لا تمت للواقع التاريخي أو السياق اللغوي بصلة، أو يُشكك في القيمة الفكرية لمفكر بارز، وذلك دون تقديم حجج مقنعة أو منهجية بحثية سليمة. والمفاجئ والمثير للتساؤل أن هذه الأفكار تجد قبولاً واستحساناً، بل وتأييداً واسعاً، مما يعكس ضعف المناعة الفكرية لدى شريحة من الجمهور، ورغبتهم في سماع ما يكسر القوالب المألوفة دون تمحيص، أو ربما بسبب عدم امتلاكهم للأدوات اللازمة لتقييم صحة هذه الادعاءات.
مواجهة هذه الظاهرة التي تهدد النسيج المعرفي والمناعة الفكرية للمجتمع، أرى بعض المسارات الواقعية والموضوعية التي يمكن أن تسهم في استعادة المنطق والموضوعية للخطاب العام. يجب أولاً وقبل كل شيء إعادة التأكيد على أهمية التعليم كحاضنة أساسية للتفكير النقدي والمنهجية العلمية. لا يقتصر الأمر على تلقين المعلومات، إنما ينبغي أن تركز المناهج الدراسية، خاصة في مراحلها المتقدمة، على تدريس فن التحليل، التمييز الواضح بين الرأي والحقيقة، وأسس التحقق من المصادر ومصداقيتها. يجب أن يتعلم الأفراد كيف يبنون قناعاتهم على أساس المعرفة الموثوقة والمنطق السليم، وليس على مجرد الانطباعات العابرة أو المشاعر اللحظية. هذا يتطلب تطوير برامج لمحو الأمية الإعلامية والرقمية، لتمكين الطلاب من تقييم المحتوى الذي يواجهونه يومياً.
كذلك، على الإعلام المحترف، سواء التلفزيوني أو الرقمي، أن يستعيد دوره كحارس أمين للمعرفة والمصداقية. يتطلب ذلك وضع معايير مهنية وأخلاقية أكثر صرامة لاستضافة الخبراء والمحللين، والتركيز على المحتوى العميق والتحليلات الرصينة القائمة على الحقائق. يمكن للمؤسسات الثقافية والجامعات ومراكز الأبحاث أن تطلق مبادرات جادة ومنظمة لنشر المعرفة الموثوقة بلغة مبسطة وجذابة في آن واحد، عبر ورش عمل تفاعلية، ندوات مفتوحة للجمهور، أو سلاسل فيديوهات تعليمية قصيرة ومكثفة، لتكون بديلاً جذاباً وموثوقاً للمحتوى السطحي والزائف. كما يمكن دعم مبادرات التحقق من الحقائق (Fact-checking) وتطويرها لتصبح أكثر فاعلية ووصولاً للجمهور.
وربما تقع المسؤولية الكبرى على عاتق المختصين والباحثين والمثقفين فيما يمكن أن نطلق عليها "نخبة المعرفة". يجب عليهم أن يخرجوا من دوائرهم الأكاديمية أو الثقافية المغلقة ويتفاعلوا بشكل أكبر مع الجمهور الواسع على مختلف المنصات. عليهم أن يتحملوا مسؤولية تبسيط المعرفة ونشرها، وأن يكونوا حاضرين بقوة على المنصات الرقمية لتقديم محتوى نوعي يصحح المفاهيم المغلوطة ويكشف زيف "الهبد" بطريقة واضحة، محترمة، وذكية، دون التقليل من شأن الجمهور أو استخدام لغة متعالية. إنها دعوة لبناء جسور تواصل فعالة بين المعرفة الرصينة والجمهور، لتمكين الأفراد من التمييز بين الأصيل والزائف، وحماية العقل الجمعي من طوفان "الأي كلام" الذي يهدد بتقويض أسس التفكير السليم والبناء المعرفي للمجتمع.