السبت 28 يونيو 2025 12:08 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. أحمد يوسف علي يكتب : عيد بأية حال عدت يا عيد؟!

د. أحمد يوسف علي
د. أحمد يوسف علي

هنأني المحبون والأصدقاء بحلول غرة المحرم للعام الهجري الجديد 1447. وكانوا تواقين إلى أمل جديد يبشر به هلال المحرم. وكنت مثلهم تواقاً إلى بارقة أمل تلوح من بعيد. ورحت في حال من التأمل الذي يستعيد الزمان الذي مضي منذ مطلع القرن التاسع عشر، بل أبعد من ذلك حين سقطت بغداد عام 656هجرية وحين سقطت بعدها الأندلس، واستقبلنا كل المهاجرين قسراً من كل الأطراف التي استبيحت ودخلنا في بيات شتوي عنيف أفرز دولة المماليك التي زالت وأعقبها ظلام دامس تحت راية سليم الأول. راية الذل والإذعان للعثمانيين.
كنت أظن أن سقوط دولة الخلافة في بغداد هو السقوط الأخير، ولكنه كان بداية فترات متعاقبة من السقوط في هاوية التخلف والجمود والتسلط ومعاداة العقل وألفة الخرافة وكراهية العلم. لم نفق من حلقات السقوط المتعاقبة حتى بعد أن أذهلتنا الصدمة الحضارية الحديثة. فقد دخل علينا جنود الفرنجة عقر دارنا ومعهم نواتج العلم الحديث من معامل العلوم والمطبعة والصحافة وكتيبة العلماء الذين صاحبوا حملة نابليون بونابرت ليعملوا على معرفة المصريين الذين جاءوا لغزوهم، وبدأوا معرفتهم من عقلهم الذي شاد حضارتهم القديمة الباقية، ومن قلوبهم التي نسجت فكرهم وتقاليدهم وأخلاقهم وفنونهم ورؤيتهم لأنفسهم ولغيرهم، ولدينهم الذي صبغوه بصبغتهم المصرية الخالصة. فوصفوا المكان كما وصفوا الزمان، واقتربوا من حال الإنسان الذي كان يتطلع للحكم الرشيد، والعلم النافع، والاتصال بكل الحضارات الإنسانية. وتبلورت كل هذه المساعي في موسوعة معرفية هي وصف مصر من عشرين مجلداً، وفي تأسيس المجمع العلمي الذي اتخذ من بيت السناري في مصر الإسلامية مقرا له.
حملة عسكرية تتسلح بالعلم، كما تتسلح بالفكر والتخطيط وبالقوة الخشنة، والقوة الناعمة. تخاطبنا خطاب الإذعان اعتماداً على التقدم الذي أحرزته في العلم العسكري، وتخاطبنا في الوقت ذاته خطابا حضارياً مراوغاً يهدهد عواطفنا الدينية، ويستميلنا نحوها عسى أن يأخذوا بالرفق ما يمكن أن يأخذوه بالشدة والعنف.
ومن صفحة التأملات التي استغرقتني، حدث الهجرة في حد ذاتها. هي دعوة حوصرت، ورسول أوذي، ورجال ونساء وشباب آمنوا به وبدعوته، وصدقوه، فهان عليهم كل غال: هانت عليهم أرواحهم وأجسادهم، كما هانت عليهم أموالهم وبيوتهم وزروعهم، وزهدوا عن يقين في كل متاع الدنيا، وصغر في أعينهم كل شيء إلا أن ينتصروا للرجل الذي صدقوه، وللكتاب الذي جاء به، وللعقيدة التي ترسخت في قلوبهم. وهم يدركون أن ميزان العدل كفته مختلة. فأين هم من عتاد قريش، ومن مركزيتها وزعامتها للقبائل العربية في كل أنحاء الجزيرة؟ وأين هم من توازن القوى، ولعبة المصالح التي تعلو على المباديء الكبرى مثل الحق والعدل والتعايش واقتسام حق الحياة. وأين هم من سلطان المال، وجبروت النفوذ والسلطان؟ إن عتاة المتجبرين لايأبهون للضعفاء ولو كانوا على الحق المبين. وقد كان فريق المؤمنين عراة من الجاه والنفوذ، ولم يكن لهم من عاصم إلا يقين الحق، وسلطان العقيدة التي كانت موصولة بالسماء.
لم تكن الهجرة فراراً من مكان إلى مكان، ولكنها كانت عبوراً إلى المستقبل بعد أن ضاق حاضر مكة بمن فيها. فقد حدث انقسام داخل البيت القرشي وهو البيت الأكبر من بيوت العرب. فالنبي المبشر بالدين الجديد هاشمي قريشي، وعتاة المناوئين له هم كبار هذا البيت، ومن يتعاطفون معه في حرج عظيم من أن يعلنوا انحيازهم له وإيمانهم به، ولكن رابطة الدم والمروءة تمنعهم من عدائه وهجرانه، وتمنعهم من قبول المغالاة في إيذائه. لذا لم يكن بد من القفز إلى المستقبل الذي لن تبدو تباشيره إلا بالهجرة من مكة، والابتعاد عن عيون كبارها الذين يعادون محمداً ويعادون دينه الذي أضحى تهديداً وجودياً لهم. فالدين الجديد يرد كل الناس إلى سلطان واحد هو الله الذي تتساوى عنده أقدار الناس ولا تتفاضل إلا بالعمل الصالح، وفي سباق العمل لايكون المال ولا الجاه هو الفيصل، بل الإتقان والتقوى والإيمان المستقر في القلب. والمال قسمة بين الناس غنيهم وفقيرهم لأنهم مستخلفون فيه.
لذلك كانت الهجرة حدثاً جوهرياً فاصلاً بين عالمين: عالم أوشك على الغروب في مكة، وعالم أشرقت شمسه فيها ولم تسطع إلا في المدينة بعد الهجرة. وهنا بدأ العلم مقروناً بالعمل ومبنياً على قواعد أخلاقية كبرى كانت مصادرها ما أقره الله من أخلاق الناس، وما أقره الله في كتابه الكريم مؤيدا بأعمال الرسول وسلوك أصحابه على منواله. فالمجتمع الجديد كان قوامه العلم والعمل والقواعد الأخلاقية الكبرى التي صارت تمتلك قوة القانون إضافة إلى قوة الضمير.
هذه هي الأصول الأولى التي جعلت المجتمع الأول للمسلمين ينتصر ويستقر وينهض ويمتد خارج الموطن الأول ليكون الدين للناس جميعاً وليس للعرب فحسب، ولتكون الأخلاق قواعد كبرى للسلوك، وليكون العلم منهاجاً مؤيداً للعقل ومبرهناً على المعرفة الحسية، ونشاطاً متزايداً حسب طبيعة التطور الاجتماعي، ومؤسساِ للتقدم الذي يمنح الإنسان القوة والعزة والمنعة.
هذه الأصول هي القانون الأكبر للتقدم الذي إن أخذ بها الإنسان ارتقى وإن تركها ضعف وانزوى. هذه الأصول مبذولة للناس بغض النظر عن دينهم أو لونهم أو أعراقهم او أوطانهم. هي قوانين كبرى لاتبوح بأسراها إلا لمن عمل بها واعتقد أنه يسعى وأن سعيه سوف يرى، وأنه سوف يجزاه الجزاء الأوفى. وسؤالي الذي لايفارقني أبداً في كل مناسبة متى نؤمن بهذه الأصول الكبرى ونعمل بها ونجعلها قواعد للتقدم؟ ومتى يكون لنا مكان في الصدارة في زمننا هذا بعد أن ضلت البوصلة طوال أزمان طويلة مضت هل علينا فيها هلال المحرم ونحن نسأل" عيد بأية حال عدت ياعيد؟

د. أحمد يوسف علي عيد بأية حال عدت يا عيد؟! الجارديان المصرية