د. نهال أحمد يوسف تكتب : مقاومة التغريب


لقد كانت تلك اللحظات التي عشتها، محاطةً بأنغام تراثنا الغنائي الأصيل، بمثابة ومضة كشفت لي حقيقة عميقة أن الفن التراثي المصري، بكل تجلياته من لحن وكلمة، لون وشكل، ليس مجرد انعكاس للجمال، إنما هو خط دفاع أخير، حصن ثقافي حي، ومقاومة متأصلة تنبض في شرايين الأمة ضد أي محاولات للتغريب أو محو الهوية. هذا الإدراك لم يكن مجرد استمتاع عابر؛ لقد كان تحليلاً عميقاً لدور الفن بوصفه درع لا يتصدع، يحمي الروح الجمعية من عصف رياح التغيير العاتية.
جذور هذا التراث عميقة، تمتد لآلاف السنين. لم تكن الموسيقى، الرسم، النحت، أو الأدب مجرد زينة للحياة، إنما كانت من صميم الوجود المصري القديم. النقوش والتماثيل والأعمال الأدبية القديمة ليست مجرد قطع أثرية، فهي تجليات حية لمعتقدات وقيم وارتباط عميق بالأرض. قدرة هذا التراث على التطور والامتزاج مع الحضارات المتعاقبة دون فقدان روحه الأصيلة هي بحد ذاتها شهادة على مرونته ومقاومته الكامنة. لقد استوعبت الثقافة المصرية التأثيرات، لكنها صاغتها وفق خصوصيتها، لتظل تعبر عن الوجدان المصري بصدق فريد، وهذا يمثل أولى صور المقاومة الثقافية.
مع تعاقب العصور، استمر الفن المصري في التجدد، مستلهماً من ماضيه الغني. برزت أسماء رائدة في الموسيقى والأدب والفنون التشكيلية، شكلت ملامح الفن المصري الحديث، مستندة إلى إرث ضخم. هذه الأعمال، التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ذاكرتنا الجمعية، لم تكن مجرد إبداعات فنية؛ كانت تحمل قيماً وطنية واجتماعية عميقة، تجسد الصمود والوحدة. وأرى أن بقاء هذه الأعمال وتناقلها عبر الأجيال يؤكد فعاليتها بوصفها أداة قوية للمقاومة الثقافية، فهي تذكر الأمة بهويتها باستمرار.
وأجد أن اللافت للانتباه بشكل خاص هو تزايد اهتمام الشباب الحالي بهذا التراث. فهذا ليس حنيناً عابراً، إنما هو حاجة فطرية للتواصل مع الجذور وفهم الهوية في عالم يزداد تعقيداً وغربةً. في ظل انتشار ثقافات استهلاكية سطحية، ربما يجد بعض الشباب في الفن التراثي أصالة وعمقاً ورسالة حقيقية. وانخراطهم هذا ليس مجرد ترفيه، لكن هو تأكيد حي ومستمر على أن المقاومة الثقافية ليست مفهوماً نظرياً، إنما ممارسة حية تتجدد في كل جيل، في كل تفاعل مع هذا الإرث الفني.
إن جوهر المقاومة يكمن في أن الفن التراثي يقف سداً منيعاً ضد "التغريب"، الذي لا يعني مجرد تبني الجديد، إنما التآكل التدريجي للخصوصية الثقافية وفقدان الهوية. يمتلك الفن الأصيل القدرة على تقديم سرد بديل، متجذر في التاريخ والقيم المحلية، يقف بقوة في وجه السرديات الثقافية الوافدة التي قد تسعى للطمس أو الإحلال. التمسك بالذوق العام الأصيل ودعم فنوننا ليس ترفااً جمالياً؛ إنه ضرورة وجودية للحفاظ على كياننا الثقافي. كل لحن يُعزف، وكل نقش يُقرأ، وكل لوحة تُتأمل، وكل نص أدبي يُعاد اكتشافه، هو تأكيد على أن الأصالة لا تزال حية. إنها رسالة واضحة بأن الثقافة المصرية، بتاريخها وعمقها الفني، قادرة على الصمود أمام أي رياح تغيير، وأنها تمتلك المقومات لتكون مصدر إلهام وإبداع للأجيال القادمة. هذا التفاعل المستمر مع التراث الفني هو الفعل الجذري للمقاومة؛ إنه يرسخ الهوية المصرية في مواجهة التحديات الخارجية.
وأؤكد أن التراث الفني المصري يظل شاهداً حياً على عظمة حضارة ومرآة لروح أمة. إنه قصة شعب ورحلة عبر الزمن، تتجسد فيها آمال وتحديات المصريين. هذا الارتباط العميق يؤكد أن التراث ليس مجرد مادة أكاديمية، لكن هو جزء حيوي من الوجدان الجمعي، يتجدد ويظل مصدر قوة. في عالم متغير، يصبح ضرورياً أن نحافظ على الذوق العام وندعم الفن الأصيل، لأنه تراثنا، وهو حصن الأمة المنيع الذي يضيء دروب الغد بنور الأصالة والجمال في وجه أي محاولات للتغريب.