الإعلامى محمد جراح يكتب : الدينُ والسياسةُ في مصرَ القديمة (2)


أشرت في المقال التمهيدي الأول إلى أن العقيدة كانت حاضرة في كل الأوقات حتى ولو تعددت الأرباب حسب تفسيرنا إلا أن المصري ظل ينظر في كل وقت إلى أن للكون إلهاً هو الخالق وهو المقدر وهو الحامي وهو الباطش وهو الحنون الذي يبسط عدله ويأخذ بأيدي الجميع إلى ديار الخلود، وأن رع كان هو المعبود الأول حتى نافسه آمون وتقدم فاحتل الصدارة حتى عاد رع من جديد في عصر الدولة الحديثة فكان لابد من توحيدهما في رب واحد هو آمون رع، ولم يخل المقال الأول من الإشارة كذلك إلى التوحيد، وأن دعوة إخناتون التوحيدية كانت لها مقدماتها لأنها كانت ترتكز على أصول ثابتة إذ لم يكن الرب آتون الذي نادى به إخناتون إلا مظهراً من مظاهر عقيدة الشمس، اي ديانة رع، وكان العرش حاضراً ومستفيداً في كل الأوقات وعلى امتداد التاريخ الطويل، وكان كاهن الإله إلى جانب الملك دائماً بمعنى أن الملوك استطاعوا أن يحسنوا استغلال وتوظيف الدين في توطيد أركانهم، فالدين يستطيع أن ينجز ما لا تنجزه القوة المادية، وغني عن البيان معرفة أنه من الممكن أن تقود فرقة بفكرة دونما مقاومة؛ عكس أن تم ذلك بالقوة المادية المباشرة؛ وما يمكن أن تسببه من صراعات؛ بل إن بعض الملوك وظفوا الدين من أجل أنفسهم ليؤكدوا شرعيتهم وأحقيتهم في العرش، واختلقوا في سبيل ذلك ما كان يسمى بالولادة المقدسة، وتفاخروا بها وهم يذكرون أن الإله هو من جامع أمهاتهم فحملن فيهم فكانوا أبناء للآلهة وليسوا بشراً كغيرهم من البشر، ومن أشهر تلك القصص قصة ولادة الملكة حتشبسوت المنقوشة على جدران معبدها الذي يعرف باسم معبد "الدير البحري" بالبر الغربي بمدينة الأقصر، حيث ادعت بمساعدة الكهنة أنها ابنة للإله "آمون رع".
وفي عصر الدولة القديمة فسرت المعابد والمقابر والأهرامات معنى الدين وقدمته للناس فكان مردوده عظيماً، ومن يدعي أن السخرة هي من أنجزت بناء الأهرامات مردود عليه في ادعائه، لأن بناء العمائر الدينية تأثر بالأوضاع الاقتصادية في زمنها، بما يعني أن من بنوها كانوا يعملون ويتقاضون مقابل عملهم وكدهم، أما الطاعة والإقبال على ذلك فكان سببه أن الملك هو الوسيط، أو هو خليفة الإله على الأرض، وهو ابنه كذلك، ثم هو نفسه في تواريخ لاحقة، ومن أجل ذلك لم يتأخر أحد من الرعية كلما دعت الحاجة إلى بناء.
عصر الدولة الحديثة
استطاع المصريون دحر المحتل وهزيمته وتشتيته وإقامة الدولة الحديثة بعد حوالي أربعة قرون جثم فيها الهكسوس على البلاد، ولولا الإيمان الذي يسكن القلوب لكان المصريون قد نسوا وتكاسلوا وذابوا مع المحتل كما هي القاعدة التي تقول إن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب، لكننا في مصر عكسنا ذلك فكان الغالب هو المولع بالتقليد، ويفسر ذلك المعنى أن جماعات الهكسوس تمصروا وتسموا بأسماء مصرية؛ وتعبدوا إلى آلهة المصريين، ولم يقف الأمر عندهم بل تكرر بعد ذلك، ولعل في قصة البطالمة وتمصرهم ما يشير إلى ذلك بجلاء.
وقد أتفق مع من قالوا بأن مصر هي من حافظت بعد الله على الإسلام وأعادت تقديمه خالصاً من أي شائبة إلى الجميع بما فيها الأرض التي هبط فيها الوحي إلى الدرجة التي جعلت البعض ينحت مصطلحاً جديرا بالملاحظة والاهتمام وهو مصطلح "الإسلام المصري"، أي الإسلام الوسطي البعيد عن مغالاة المفسرين الذين سكنوا الصحراء؛ وجاءوا بكل متشدد فشقوا على العباد، وأتعبوا كذلك البلاد.
إذن كان الدين حاضراً في كل الأوقات، وعلى الرغم من تسليمنا بإيمان الناس؛ إلا أن العقيدة كانت أداة أساسية من أدوات الحكم قبل غيرها من الأدوات المادية، وبها استطاع الملوك أن يحكموا، وأن يفرضوا سلطانهم، وأن تكون كلمتهم دائماً مسموعة، وأوامرهم نافذة، وظل الكهنة مقدمون ومكرمون ومبجلون، ولم يشغل الملك نفسه إلا بتقوية المؤسسة الدينية مثلما كان يتم تقوية الجيش بأدوات القوة المادية.
الأمة المصرية
الأمة المصرية أمة وسطية منذ القدم ولم تجنح مرة أو تشط أو تتعصب، بل في الفترات التي تعصبت لعض الوقت تكدر صفوها، ولم تهدأ حتى عادت إلى رونقها، ونعرف أن المصري لم يحمل سلاحاً في مرة ليقاتل أخاه، بل حمله الاثنان دفاعاً عن الأرض والعرض، ومن أجل ذلك لم تتكون على امتداد التاريخ ميليشيات مسلحة ضد أخرى، بل إن عصور الظلم والاستبداد قاومها المصري بعقله وبصيرته وبمخزونه الثقافي، وكل من راهن على فرقة الشعب باء رهانه بالفشل، لأن أهل مصر شمالاً وجنوباً ظلوا دائماً شعباً واحداً، وعلى الرغم من كثرة المتآمرين الذين لعبوا على اشعال فتيل الفتنة الطائفية فإنهم لم يفلحوا وباء سعيهم بالفشل لأن الشعب كان أوعى من كل مخططاتهم، ويمكنني القول بكل وضوح إن مصر لا تشبه إلا نفسها.
الملكة تي
الملكة تي كما ذكرتها كل كتب التاريخ واحدة من أعظم الشخصيات المصرية النسائية، فإذا كان التاريخ قد تعرض لسير ملكات كان لهن فضل في قصة التحرير؛ واستعادة مصر من مغتصبيها "الهكسوس" أمثال "تتي شيري" و"أحمس نفرتاري" فإن الملكة "تي" لعبت دوراً لا يقل إن لم يفق في أهميته ما قدمته السابقات عليها، لأنها استطاعت أن تدير أزمة بمنتهى الحكمة والحنكة، واستطاعت أن تنقذ عرشاً، وتحافظ على الدولة في ظرف عصيب كادت فيه مصر أن تسقط من جديد بعد الدعوة الدينية التي أطلقها ابنها الملك أمنحوتب الرابع "إخناتون" وصدامه مع كهنة "آمون" إله الدولة الأول في تلك الفترة.
قيل عنها إنها من عامة الشعب، أي أنها لم تكن من نبت العائلة الحاكمة، وكلمة عامة الشعب هنا ليست دقيقة لأنها لا تعني ما قد يظنه البعض من أنها من العوام، ولكن وكما هو معروف هناك من الأسر من ارتبطت بعلاقات مع القصر أو السلطة بشكل عام، وهؤلاء بينهم وبين السلطة وشائج وعلاقات وزيجات ووظائف ومنح وعطايا، والملكة "تي" كانت من تلك الأسر المرتبطة بالقصر ممن يمكن تسميتهم بطبقة الوجهاء أو النبلاء، وكان كل من أبيها وأمها من كبار الحاشية بما شغلاه من وظائف كهنوتية وغيرها.
تزوجت "تي" من الملك "أمنحوتب الثالث"، والمعروف أن هذا الملك لم يكن من الشخصيات التي تهوى العسكرية، خصوصاً وأنه وصل إلى العرش وكان الشرق القديم قد دان بالولاء للنفوذ والسيادة المصرية في عصر يسمى بعصر الإمبراطورية وهي الإمبراطورية التي شيدها الملك "تحتمس الثالث" بعد حروب التحرير التي انتهت بأن صارت حدود مصر تبدأ من بلاد النهرين شرقاً، والأناضول شمالاً، والجندل الرابع والنوبة العليا جنوباً قرب الخرطوم، وبرقة في ليبيا والصحراء غرباً، أي أنه جاء جانياً لثمار مرحلة من الكفاح والعمل الجاد الذي أسس لتلك الإمبراطورية العظيمة، بما يعني انه لم يكن بحاجة لمغامرات جديدة خصوصاً وأن القوى المناوئة في تلك الفترة قد استكانت وارتضت بما صارت أو أصبحت عليه الأوضاع، ومن ثم كانت حياته على ما ذكره المؤرخون حياة دعة وراحة، ومن ثم مال ناحية الترف الذي يقترب من اللهو حتى رحل، وحكم من بعده ابنه أمنحوتب الرابع "اخناتون" الذي ما يزال شخصه وعصره بحاجة إلى مزيد من الفحص والدراسة، ذلك أن دعوته الدينية لم تأت من فراغ، ولم تكن فكرة قد طرأت على ذهنه فسعى مخلصاً لتنفيذها وفرضها على الواقع، فالمعروف أن "آتون" كان معروفاً من قبل، وهو أحد مظاهر عبادة الشمس، فعندما يستدعى رمز من رموز تلك العقيدة فعلينا أن نعرف أن عقيدة الشمس أرادت أن تعلن عن نفسها مرة أخرى بعد تغول رجال "آمون" الذين صار الفيء الأكبر من نصيبهم من ناحية، ولأن الملوك أنفسهم كان منهم من ضاق ذرعاً من ذلك التسلط، فكان لابد من استدعاء المناوئ القوي وهو هنا "رع" والد كل الأرباب.
والثابت أن ملوكاً سابقين على "أمنحوتب الرابع" مالوا إلى ما أشرنا إليه، ولعل ما جاء في لوحة الحلم للملك "تحتمس الرابع" ما يشير إلى ذلك وهو بالمناسبة جده، لماذا ذكر أبا الهول، ولماذا مال ناحية عقيدة "رع" في تلك الفترة التي كان فيها "آمون" في المقدمة؟، إن دل ذلك على شيء فإنما يدل على وجود ما يشبه الصراع بين الديانة الأولى ديانة "رع" وديانة "آمون" على نفوذ لهذه أو تلك، والمعروف أن العرش كان مستفيداً من وجود قوة روحية يستطيع أن يؤكد بها وجوده، ويسوس ويحكم بها الناس، ويسهل عليه قيادتهم إلى ما يراه.
وقد يسأل البعض هنا: ولماذا لجا الملوك إلى بديل طالما توفرت قوة موجودة بالفعل؟، والإجابة بسيطة وهي أن كهنة "آمون" كانوا قد أرهقوا العرش، وكان لابد من حدهم بعد توغلهم وعلو شأنهم؛ وسيطرتهم على القرار في القصر، وفي غيره.
(يتبع)