السبت 5 يوليو 2025 02:18 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : ولينتصر الجميع... ولكن خسرت الشعوب

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

في عالمٍ انقلبت فيه المقاييس، وصارت الهزيمة تُسوَّق كنصر، والمأساة تُعرض كإنجاز، والدماء تُحوَّل إلى أوراق ضغطٍ ومكاسب سياسية، لا عجب أن نرى الجميع يعلنون انتصارهم... إلا الشعوب.
جاءت هدنة غزة الأخيرة لا كزيتٍ على نارٍ خمدت، بل كماء بارد سُكب على دماءٍ لم تجف، وكأنها استراحةٌ للقتلة كي يستعيدوا أنفاسهم قبل جولة جديدة من الذبح. هدنةٌ مهزلة، لا تحمل من الإنسانية سوى اسمها، ولا تُبشّر إلا بالمزيد من الوجع المؤجل.

حماس، وعلى أنقاض البيوت المحترقة، أعلنت أنها صمدت، وأن مشروعها ما يزال حيًا، وأنها ربحت المعركة، رغم حجم الخسائر الذي لا يمكن لعقلٍ أن يتصوره. تقول إنها انتصرت لأنها "ثبّتت القضية"، بينما ثبّتَ العدو على الأرض دمارًا عابرًا للأجيال. أي نصر؟! وقد شُرّدت أكثر من مليونَي إنسان، قُطعت عنهم الكهرباء والماء والغذاء، وقُصفت المدارس والمستشفيات والمخيمات؟!
لكن في عالم السياسة، تكفي شرارة واحدة وصاروخ طائش لتُرفع راية "الانتصار"، ويُغضّ الطرف عن أكثر من 50 ألف شهيد، معظمهم من النساء والأطفال، وعن 75% من قطاع غزة وقد أصبح غير صالح للحياة.

أما إسرائيل، فقد خرجت، كعادتها، تزفّ نصرًا كاذبًا إلى جمهورها المتعطش للمجازر. أعلنت أنها "حققت أهدافها العسكرية"، وأنها "حجّمت قدرة حماس"، رغم أنها لم تستطع إسكات صاروخ واحد حتى اليوم الأخير من العدوان. لكن الانتصار، عندهم، يُقاس بعدد الجثث، لا بعدد الأحياء.
هدمت إسرائيل أكثر من 60% من مباني غزة، وقتلت العائلات بأكملها في منازلها، واستهدفت المخابز والمياه والمساعدات الإنسانية، وساوت أحياءً كاملة بالأرض، كل ذلك تحت مسمى "ضرب البنية التحتية للإرهاب". بل الأدهى، أنها لم تكتفِ بالقصف، بل أضافت إلى المشهد مذابح مروعة بحق المدنيين العزّل، في مشاهد تعيد لذاكرة العالم مجازر صبرا وشاتيلا ودير ياسين، ولكن هذه المرة... على الهواء مباشرة.

وأمريكا، راعية الجريمة، تتباهى بدورها في "تحقيق الهدنة". كانت تغذي آلة القتل بيمينها، وتوزع بيانات "القلق الإنساني" بيسارها. منحت إسرائيل الغطاء السياسي الكامل، وزوّدتها بالقنابل الذكية، وعرقلت قرارات مجلس الأمن مرارًا. ثم خرجت بكل وقاحة لتقول إنها "نجحت في تجنب حرب إقليمية".
أهذه هي الإنسانية في قواميس البيت الأبيض؟! أن تُمزق أجساد الرُضّع، وأن تُخنق المدن تحت الحصار، ثم نمنّ على الضحايا بأننا سمحنا لهم بالبقاء تحت الركام بدل أن نمحوهم نهائيًا؟!

ثم إيران، التي تقف دومًا حيث يمكنها الصراخ دون أن تُصاب. أعلنت انتصار "محور المقاومة"، وباركت لحماس "النجاح"، وهددت كما اعتادت. لكنها لم تطلق صاروخًا واحدًا من أراضيها، ولم تُرسل إلى غزة شحنة دواء أو شربة ماء. تركت الحلفاء يذبحون، لتجني وحدها أوراق التفاوض في فيينا أو بيروت أو بغداد.
نعم، إيران تُجيد فن الخطابة، ولكن على حساب الدم الفلسطيني.

وها هي الشعوب، خاصة في غزة، تحصي الخسائر الحقيقية:
أكثر من 15 ألف طفل قُتلوا، وأطفال آخرون يُعثر عليهم أحياء تحت الأنقاض وقد فقدوا أسرهم بالكامل.
آلاف الإصابات بالبتر والإعاقة الدائمة.
أمهات يلدن فوق الأنقاض، ويُسعفن على ضوء الشموع.
مخيمات مكتظة بلا طعام، بلا ماء، بلا دواء.
مقابر جماعية بلا أسماء، ودماء تسيل بلا عدّ.

الشعوب لم تُستشر يوم اندلعت الحرب، ولم تُسأل عندما أعلنوا الهدنة. كانوا فقط أدوات. مجرد أرقام في نشرة الأخبار، أو صور دامية تهز الضمير الغربي ساعة قبل أن ينام مرتاحًا.

الغريب... أن العالم الذي كان يُدين روسيا على كل طلقة، قد صمت تمامًا أمام إبادة شعب كامل، وكأن الفلسطيني لا يملك الحق في البقاء، أو كأن موته جزء من "التوازنات السياسية" الجديدة.
أين كانت أوروبا؟! وأين العرب؟!
أين الجامعة العربية؟!
أين المسلمون الذين ملأوا الدنيا صخبًا من أجل رسوم كاريكاتيرية ولكنهم صمتوا على مذابح حقيقية؟!

أما الشعوب العربية، فقد ذاقت مرارة الخذلان من جديد. صارت ترى القضية تُذبح، وتُباع، وتُسلم على طبقٍ من رماد، وهي لا تملك إلا الدعاء. حتى التظاهرات صارت تُقمع، والكلمات تُحاصر، وكأن المطلوب ألا نحزن، وألا نصرخ، وألا نكتب!

لقد كانت هذه الهدنة فضيحة أخلاقية، قبل أن تكون اتفاقًا سياسيًا. فضحت الجميع:
فضحت دعاة الحرية،
والمتاجرين بالمقاومة،
ومصنعي السلاح،
والمطبعين،
والمخدوعين.

وربما تُعلن الهدنة كـ "نهاية مرحلة"...
لكن الحقيقة أنها بداية مرحلة جديدة من المآسي.
فأطفال غزة الذين عاشوا الحرب لن ينسوا،
وأمهات غزة التي دفنت أبناءها لن تسامح،
وأطلال غزة التي لا تزال تغني تحت الركام، لن تصمت.
وها هم القتلة يحتفلون، والمتواطئون يوزعون الأدوار، وأبواق الإعلام تروج للسلام الزائف، والمهزلة مستمرة. أما الضحية الحقيقية، فهي الإنسان… الفلسطيني، الغزاوي، المقهور منذ ولادته وحتى شهادته.

هذه ليست هدنة... بل اتفاق بين الجلادين لترك الضحية تنزف قليلاً دون أن تموت.
هدنة بلا عدالة، بلا محاسبة، بلا ضمانات.
هدنة أشبه بوقف إطلاق نار بين الذئب والحَمَل... إلى حين.

وفي النهاية، سيذكر التاريخ أن الجميع قالوا إنهم انتصروا…
لكن الحقيقة الوحيدة الخالدة هي أن:
غزة نزفت وحدها،
وغزة ماتت وحدها،
وغزة خسرت وحدها.

أما البقية... ففازوا فقط بالمزيد من العار.

ولينتصر الجميع... ولكن خسرت الشعوب حسين السمنودي الجارديان المصرية