محمد الطواب يكتب : اصوات الادب و الفن في زمن الزحام و الضجيج


فى وسط الصخب و الزحام، وبين ضجيج ( بدون طحين) يسمونه موسيقى و فى الواقع هو لا يشبه الموسيقى من قريب او من بعيد ، وتغريد يسمونه شعرا و هو لا يشبه الشعر، يقف (الأدب ) في مصر حائرًا، يتلفت حوله فلا يجد سوى صدى صوته القديم. يقلب صفحات المجد فى الادب و الفن ، يتذكر نجيب محفوظ ، طه حسين وعبد الحليم، ام كلثوم و يهمس للزمن: "أين كنّا؟ وأين صرنا؟" و كيف اصبحنا ؟"
الفن، ذلك العصفور الذي طالما غرد فوق أسلاك الحزن، لم يعد حرًّا كما كان. سُجِن في أقفاص السوق و زوق السوق ، يُطعَم بما يطلبه الجمهور لا بما ينزفه الإلهام. فتحوّل المسرح إلى ديكور، والسينما إلى ملهى، والرواية إلى ملف بي دي إف مهمل في زاوية شاشة لحاسوب قديم على طاولة خشبية متهالكة
نحن في زمن يعاد فيه إنتاج القديم بتقنيات حديثة، ولكن بروح باهتة. كأنّنا نُصفّق لظلّ الفن لا لحقيقته. أمّا الأدب، فقد صار كمن يكتب على الماء. لا صدى، لا تفاعل، لا مكان في زمن "السوشيال ميديا" لمقالة تقرأ بالقلب لا بالإعجاب السريع.
ومع ذلك، لن يموت الإبداع. تحت الركام، لأنه لا يزال هناك من يخطّ قصيدة في عتمة ليل ، ويرسم لوحة على حائط الزمن المهجور ، ويكتب رواية لا تباع ولا تبيع إلا للضمير. لا يزال هناك من يرى في الكلمة نجاة، وفي النغمة وطنًا، وفي اللون حياة.
لعل هذه المرحلة، بكل ما فيها من انحدار و تدنى ، ليست إلا هدنة ما قبل الانبعاث و النهوض من جديد لعلّه الصمت الذي يسبق العاصفة الابداعية الجمالية القادمة. لأن الأدب لا يموت... بل يختبئ. والفن لا يختفي... بل يكمن قليلا ليتأمّل ثم ينطلق
فيا أيها المبدع، لا تيأس ويا أيتها الفكرة لا تموتي. سيأتي يوم يعود فيه للحرف وزنه، وللصورة روحها، وللمسرح قدسيّته. يوم نعيد فيه السؤال الأهم : ماذا نريد أن نقول ن ماذا نريد ان نغنى ، لا ماذا يريد السوق أن يسمع.
...حين نتحدث عن "ظلّ الفن لا حقيقته"، فإننا نلمح إلى عشرات الأعمال التي تُنتَج بغزارة، ولكن بلا روح. دراما موسمية رمضانية و غير رمضانية ، تتكئ على البذخ البصري وتفتقر إلى العمق الدرامي؛ أفلام تتفاخر بالإيرادات التى تحققها لا بالرسالة التى تقدمها ؛ أغانٍ تهتز على إيقاع التريند لا على نغمة الإبداع.
هل يذكر أحدكم آخر مرة صمت فيها ليُصغي إلى أغنية كما كنا نصغي إلى وجع أم كلثوم أو صدق عبد الحليم؟ هل اصبح الغناء مجرد خلفية تُستخدم في "ريل" REEL على إنستجرام او على الفيس بوك ؟
والمسرح، يا لا المسرح، ذلك الفضاء السحرى الذي كان يضيء أرواحنا بمسرحيات تُفكك المجتمع وتعيد بناؤه و تتأثر به و تؤثر فيه — المسرح الذى صار الآن يعاني صمتًا قاتلًا، وإن عُرض فيه عملا فنيا فلا يُعرض إلا لمقاعد خاوية أو عيون تبحث عن الضحك السهل الرخيص تحت مسمى مسرح و يزج باسم مصر فى حالتى العرض على القناتين المنتجتين لهذا الزيف ، مرة باسم مسرح و اخرى باسم تياترو ؟!! .
وفي الأدب، نتلمّس من بعيد آثار أصوات كانت تُحدث زلزالًا بالحرف، مثل كثيرين منهم صنع الله إبراهيم ، الطيب الصالح أو الواقعية البسيطة الرقيقة في اعمال نجيب محفوظ ، طه حسين , و غيرهما كثير .
الآن المكتبات الإلكترونية تُغرقنا و تأتينا كل يوم و كل ساعة بعناوين كثيرة جدا ن اسماء لامعة و لكنها تتخفي وراء فقرًا لغويًّا وفكريًّا، وتمع ذلك تُمنح جوائز ليس لجودتها او لتفردها بل للمحاباة و المجاملة .
ومع هذا كله، لا بد أن نعترف ان النور لا ينطفئ تمامًا. هناك من يكتب في الظل، من يرسم في بيته، من يقدّم مسرحًا تجريبيًّا في قاعة لا تتسع لأكثر من عشرين مشاهدًا. هناك مَن يَرفُض أن يبيع فنه مقابل الرواج، حتى لو دفع الثمن من عمره أو من قوت يومه .
نرى ذلك في رواية حديثة لا يُروّج لها كثيرًا ولكنها تخترق القلب، أو في فيلم قصير على منصة بسيطة يلامس قضايا الوطن الحقيقي. نراه في أغنية تُبث من لا شيء، وتذكّرنا بأن للغناء ذاكرة لا تموت.
الأمل ليس في المنصات الكبرى ولا الجوائز السخية، بل في أولئك الذين لا يزالون يؤمنون أن الفن رسالة، وأن الكلمة موقف، وأن الجمال ثقافة يفتدها الكثيرين .
لذلك، فلنبحث عنهم، ولنكن انت من هؤلاء الذين سيأتون عاجلا ام اجلا .
ان تغيير المشهد الثقافى لا نحتاج منا إلى صخب ولا يحتاج إلى صراخ كي نُسمِع الاخرين صوت الفن الحقيقي. يكفينا أن نُصغي — بصدق — إلى ما يُقال فى الظل و خارج الأضواء ، وأن نمدّ أيدينا نحو الجمال الصامت الذي لا يزال ينبض في الهامش.
و لا نتوقع ان نتغير دفعة واحدة، بل ينبغى ان يكون التغيير بخطى هادئة، كالنبتة تنمو في ظلّ الجدار، وكالقصيدة تتشكّل في سكون الليل. فالفن لا يُبعث بالضجيج، بل بالوفاء له... بالكلمة الصادقة، باللحن العميق، بالخيال الذي لا يستقى او يستنبط مقاييس جماله و جودته من السوق بل من الروح.
لعلّ ما نحتاجه حقًا هو ان نستعيد ذاكرة امة ذاكرة شعب كانت الحكاية دمه، والغناء صلاته، والقصيدة مرآته. وحين نتذكّر — حقًا — سنعرف كيف نكتب، وكيف نُبدع، وكيف نُحبّ الفن مرةً أخرى... ولكن كما يليق به، وكما يليق بنا.
و سنظل فى الانتظار ليس فى انتظار ( جودو) و لكن فى انتظار ابداعات غير مسبوقة تذكرنا بايامنا الخولى و فننا و ابداعاتنا الجميلة فى ازماننا التى كانت .