الأحد 6 يوليو 2025 08:59 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

مروة نايل تكتب : تلباسي شكرًا ...!

الكاتبة مروة نايل
الكاتبة مروة نايل

في زمن لم تكن فيه الشاشات تضيء كل لحظة، ولم تكن الإشعارات تلاحقنا كظلال باردة، كان للقلوب تردداتها الخاصة. لم يكن أحد بحاجة إلى رسالة نصية ليشعر بأن صديقًا بعيدًا يبكي في الخفاء، أو أن حبيبًا قد امتلأ قلبه بالشوق. كانت الأرواح تنادي، فتسمعها الأرواح الأخرى بلا كلمات، بلا وسطاء. كان يسمونه التلباسي، ذلك الرابط الخفي الذي يجعلنا نشعر بمن نحب دون أن نسمع صوته، ودون أن نراه. يكفي أن يخطر شخص ما ببالك، فتجد طرقات خفيفة على الباب، أو رنينًا مفاجئًا في الهاتف القديم، أو حتى رعشة خفيفة في قلبك تقول: أنا هنا، وأحتاج إليك.
أما الآن، فهناك فرق كبير بين التلباسي شكرا، وهو ذلك الشعور الداخلي العميق الذي لا يحتاج إلى كلمات، وبين كلمني شكرا، الذي يعتمد على كلمة صريحة ورغبة واضحة في التواصل. فالتلباسي شكرا هو لغة القلوب حين كانت صافية، وكانت تنادي بعضها دون أن تحتاج إلى صوت.
ذات مساء، حين انطفأت الفوانيس، وبقي ضوء القمر خافتًا في زوايا البيت، جلست الجدة في ركنها المعتاد، ترتدي ملابس تنبعث منها بساطة العمر وهدوء النفس، كأنها تتنفس من صفاء روحها. تحيط بها ألوان هادئة، كهمس البحر في صباح بلا رياح. تكتنفها هالة من السلام والتسامح، روحها تنثر عطرًا غير مرئي، عطرٌ من الحنان والطمأنينة والثقة، يملأ المكان بهدوء، كأن الزمان يتوقف لحظة ليحتفي بسكونها الداخلي.
الجدة في ركنها المعتاد، جلبابها الأبيض يفوح برائحة الياسمين، وعيناها تحملان حكمة نحتتها السنون. تكتنفها هالة من السلام والتسامح، روحها تنثر عطرًا غير مرئي، عطرٌ من الحنان والطمأنينة والثقة، يملأ المكان بهدوء، كأن الزمان يتوقف لحظة ليحتفي بسكونها الداخلي.
وضعت يدها على كتف حفيدها، وربتت عليه بحنان، ثم همست: يا بني، التلباسي هو لغة القلوب عندما كانت صافية، كانت تنادي بعضها دون أن تحتاج إلى صوت.
لم يكن الحفيد بحاجة إلى سؤالها عن معنى الكلمات، فقد شعر بها تمامًا، كما شعر من قبل بنداء غامض أيقظه في منتصف الليل، ليتلقى بعدها بساعات خبر مرض صديقه القديم. هل كان هذا مجرد وهم، أم أن للأرواح لغة لا نسمعها إلا حين تخفت ضوضاء العالم؟
وقف عمر بن الخطاب يخطب في المدينة، وبينما تتسارع كلماته، شردت عيناه للحظة، وكأنها ترى مشهدًا لا يراه أحد سواه. فجأة دوى صوته كالرعد في سماء بلا غيوم: "يا سارية، الجبل، الجبل!" على بعد آلاف الأميال، وسط الصليل والغبار، تجمد القائد سارية بن زنيم. لم يكن هناك رسول، ولا حمامة زاجلة، فقط ذلك الصوت، الصوت الذي لم يكن يمكن أن يسمع، لكنه سمع. تحرك بجنوده نحو الجبل، لينجو الجيش من إبادة وشيكة، وعادوا منتصرين.
وعندما سأل الأمام علي كرم الله وجهة ، الفاروق عمر، كيف حدث هذا، قال جملة تحمل سر التخاطر كله: "إنها القلوب يا علي، إذا صفت رأت."
في الماضي، لم تكن هناك حاجة لأن ترسل رسالة وتسأل: هل أنت بخير؟ لأن القلب كان يجيب قبل السؤال. كان الأصدقاء يلتقون بلا مواعيد، فقط لأن أحدهم استيقظ صباحًا وشعر أن الآخر يحتاجه.
كانت الأم تنظر في الفراغ فجأة، ثم تغمض عينيها ببطء، وهي تهمس: ابني ليس بخير، فتصلها رسالته في اليوم التالي تحمل الخبر الذي شعرت به قبل أن يقال.
أما اليوم، فقد أصبحنا نعيش في عالم مزدحم، لكنه موحش، مليء بالرسائل التي تُقرأ ولا يُرد عليها، والمكالمات التي تُلغى قبل أن يرفع الهاتف. أصبحنا نقيس الحب بعدد الكلمات المتبادلة، بينما في الحقيقة أعمق المشاعر لا تحتاج إلى حديث.
لطالما حاول العلماء فك شفرة هذا اللغز. في إحدى التجارب الحديثة، وضعوا شخصين في غرفتين معزولتين، وبينهما آلاف الأميال، طلبوا من أحدهما أن يرسل للآخر كلمة واحدة عبر التفكير فقط،النتيجة: التقط المستقبل الكلمة الصحيحة بنسبة تسعين بالمئة.
والأكثر غرابة، أن المخابرات الأمريكية نفسها لم تستطع مقاومة هذا الفضول، فأطلقت في السبعينيات مشروع ستار جيت، حيث استعانت بأشخاص ذوي قدرات استثنائية لمحاولة رؤية أهداف عسكرية سرية عن بعد.
لكن كل هذا لا يهم أمام الحقيقة الأهم: كنا نشعر ببعضنا قبل أن نبحث عن تفسير لذلك.
اليوم، نحن أكثر اتصالًا من أي وقت مضى، لكننا أكثر وحدة أيضًا،أصبحنا نحدق في شاشات زرقاء، نقرأ الرسائل دون أن نجيب، نشعر بالحزن دون أن نجد من يسمع. نغرق في ضوضاء العالم، لدرجة أننا لم نعد نسمع أصوات من يحبوننا وهم ينادون من بعيد: "أنا هنا، هل تسمعني؟"
التلباسي لم يختفي، لكنه غرق تحت ركام الإشعارات والردود المتأخرة، واللقاءات المؤجلة، والرسائل التي لا تُرسل أبدًا.
وربما، إذا جلسنا مع أنفسنا للحظة، إذا أطفأنا كل الشاشات، وأغلقنا كل النوافذ الرقمية، سنسمع من جديد ذلك النداء الخافت من شخص بعيد لكنه قريب: "أنا بحاجة إليك."
كانوا في الماضي لا يرسلون لبعضهم رسائل "تلباسي شكرا" ليشعروا بالتواصل، لأن التواصل كان يحدث على مستوى أعمق من الكلمات والعلامات. كان يكفي الشعور الداخلي ليبدأ التخاطر، حين كانت القلوب ترى قبل أن تنظر، وتسمع قبل أن يقال شيء على الإطلاق.
بينما اليوم، يطلب الناس "كلمني شكرا" ليبدأ الحديث، وكي يتأكدوا من وجود الآخر بالفعل عبر كلمات صريحة واضحة.
ربما يكمن سر النداء الخافت الذي ينبعث من أعماقنا في مكان لا تستطيع التكنولوجيا أن تصل إليه، هو ذلك الشعور الخالص الذي لا يختلط بأي ضوضاء العالم الصاخب، والذي يصرخ به قلب بعيد لكنه حاضر بقوة، يقول: "أنا هنا، أحتاجك بشدة أكثر مما تسمع أو ترى."
قد نكون اليوم أكثر اتصالًا من أي وقت مضى، لكننا في جوهرنا أبعد ما يكون عن بعضنا.
لمجرد أن نعود لنسمع هذا النداء الحقيقي، ونشعر به بعمق، سنجد أن التلباسي لم يغب أبدًا، بل كان ينتظر فقط أن ننصت إليه بإخلاص.

مروة نايل تلباسي شكرًا ...! الجارديان المصرية