د. نهال أحمد يوسف تكتب : من البرث إلى رمسيس


في سجل الأيام، تتجلى أحياناً صدفٌ لافتة تحمل في طياتها دلالات أعمق من مجرد التزامن. ففي ذكرى الاحتفاء بأبطال معركة البرث، تلك الملحمة التي سطر فيها جنود مصر أروع قصص الفداء والتضحية في السابع من يوليو عام 2017، يتزامن وقوع حادث حريق سنترال رمسيس الذي شهده السابع من يوليو 2025. لنشاهد أبطال الدفاع المدني وهم يخوضون معركة أخرى، معركة إخماد النيران وإنقاذ الأرواح والممتلكات. هذه الصدفة، وإن بدت عابرة، إلا أنها تفتح الباب أمام تأمل عميق في مفهوم البطولة والشهادة والفداء، وكيف أنه ليس مجرد فكرة عسكرية، إنما هو إرث ثقافي وتاريخي متجذر في الوجدان المصري، ينتقل عبر الأجيال.
إن عقيدة البطولة والشهادة ليست طارئة على المؤسسة العسكرية المصرية، لكنها جزء لا يتجزأ من تكوينها وتدريب أفرادها. فمنذ فجر التاريخ، ومصر تشهد على بطولات أبنائها في الدفاع عن ترابها وصون كرامتها. هذا الإرث التاريخي العظيم، الذي يمتد من عصور الدولة المصرية القديمة وصولاً إلى حروب العصر الحديث، يُعمّق في نفوس الجنود المصريين اليوم روح التضحية والإقدام، ويجعلهم يدركون أنهم حملة راية مجد عظيم. هذا التميز في الاستعداد للفداء هو ما يجعلنا نؤمن بأن هذه الأرض هي "أرض خير جنود الأرض" كما قال رسولنا الكريم.
معركة البرث تقف شاهدًا حيًا على هذا الإرث المتأصل. ففي هذه الملحمة، قدم أبطال الجيش المصري أروع أمثلة الإقدام، مؤكدين أن عقيدة الشهادة متأصلة في نفوسهم، وأن الدفاع عن الوطن واجب مقدس يفوق كل اعتبار. لقد سطروا بدمائهم الزكية فصولًا جديدة في كتاب البطولة المصرية، ليصبحوا منارات تهتدي بها الأجيال القادمة في طريق العزة والكرامة.
وفي مشهد آخر، لكن بنفس الروح، نشاهد تجليات هذه القيم في المواقف المدنية التي تتطلب تضحية وشجاعة. ففي حادث حريق سنترال رمسيس، بذل رجال الدفاع المدني جهودًا مضنية لإخماد النيران لساعات طويلة، في مشهد يؤكد أن البطولة ليست حكرًا على زي عسكري. وفي قلب هذا المشهد، يبرز البطل "نور"، ابن الشهيد اللواء امتياز كامل، شهيد معركة الواحات 2017، ليواصل مسيرة والده في خدمة الوطن، مؤكدًا أن دماء الشهداء تثمر أجيالًا تحمل نفس الشعلة، وأن روح التضحية تسري في العروق وتنتقل من جيل إلى جيل، لتشكل سلسلة متصلة من العطاء والفداء.
إن هذه الأحداث المتتالية، التي جمعتها صدفة التوقيت، تؤكد في كل وقت أن هذه الأرض هي بالفعل أرض خير جنود الأرض. فبالرغم من كل المشاكل والصعاب والمحاولات التي قد تواجهها مصر، فإن هذه المواقف البطولية المتجددة تأتي لتذكرنا بأن الوجدان المصري لا يلين، وأن روح الفداء متجذرة بعمق، وأن مصر ستظل دائمًا منارة للخير والعطاء بفضل أبنائها الأوفياء الذين يحملون راية البطولة والفداء.