د. نهال أحمد يوسف تكتب : المحتوى المفبرك: فن التضليل وكيفية التحقق منه


في عصرنا الرقمي، حيث تتدفق المعلومات بلا توقف عبر منصات التواصل الاجتماعي، أصبح التمييز بين الحقيقة والخيال تحدياً حقيقياً يواجهه الأفراد والمجتمعات. فبكبسة زر واحدة، يمكن لقصة ما أن تنتشر بسرعة البرق عبر العالم، بغض النظر عما إذا كانت حقيقية أم لا، مما يؤثر بشكل مباشر على الرأي العام ويثير مشاعر متباينة قد لا تستند إلى الواقع. إن صناعة المحتوى الرقمي اليوم قد وصلت إلى مستويات متقدمة جداً، حيث يمكن للمبدعين إنتاج صور ومقاطع فيديو تبدو حقيقية تماماً، بهدف جذب الانتباه، أو الترويج لأفكار معينة، أو حتى مجرد التسلية. هذا التطور يجعلنا في أمس الحاجة إلى تبني مهارات التحقق من المعلومات.
من أبرز الأمثلة على هذا النوع من المحتوى "المفبرك" هي قصة "جيسيكا رادكليف وهجوم الأوركا". هذه القصة المزعومة، التي انتشرت بشكل واسع على منصات التواصل الاجتماعي مؤخرًا، تدعي أن مدربة حيتان تُدعى جيسيكا رادكليف تعرضت لهجوم وغدر من قِبل حوت أوركا (الحوت القاتل) أثناء عرض مباشر في حديقة مائية، مما أدى إلى وفاتها. وقد انتشرت هذه الرواية مرفقة بمقاطع فيديو تبدو واقعية للغاية، مما أثار صدمة وتعاطفاً واسعين. ومع ذلك، أثبتت تحقيقات تقصي الحقائق أن هذه القصة وهمية بالكامل، غير أنها في الأغلب نتاج الذكاء الاصطناعي (AI) وتلاعب بمقاطع فيديو قديمة. لا يوجد أي سجل رسمي لمدربة بهذا الاسم، ولا لأي حادثة من هذا النوع في الحدائق المائية حول العالم. يوضح هذا المثال كيف يمكن للمحتوى المثير، حتى لو كان بعيداً عن المنطق، أن يُصدّق بسهولة إذا ما تم تقديمه بتقنيات متقدمة تزيد من واقعيته، مستغلًا هشاشة الوعي النقدي لدى بعض المتلقين، ومستفيدًا أحياناً من استذكار حوادث حقيقية سابقة تتعلق بهجمات الأوركا على المدربين.
وفي مقابل هذه القصص المفبركة التي تعتمد على الخيال المثير، توجد قصص حقيقية مذهلة ربما تبدو مفبركة ولكنها حدثت بالفعل. ففي عام 2014، شهدت غابات سيبيريا في روسيا قصة حقيقية وموثقة لفتاة صغيرة تُدعى كارينا شيكيتوفا، كانت تبلغ من العمر ثلاث سنوات فقط. تاهت كارينا في البرية القاسية لمدة أحد عشر يوماً. هذه القصة لم تكن مجرد ادعاءات، إذ جرى توثيقها بالكامل من قبل السلطات ووسائل الإعلام الموثوقة، وعلى الرغم من أن أحداثها قد تبدو للبعض غير منطقية تمامًا - فكيف يمكن لفتاة صغيرة أن تعيش وتصمد بمفردها لمدة أحد عشر يومًا في ظروف برية قاسية - إلا أن ذلك حدث بالفعل. عُثر على كارينا بعد جهود بحث مكثفة ومضنية، وإن كانت منهكة ومتأثرة. تباين هذه القصة الموثقة مع القصص المفبركة مثل "جيسيكا رادكليف" يسلط الضوء على أهمية التمييز بين المعلومات القائمة على الحقائق وتلك المصممة لخداع المتلقين، وإبراز ضرورة الاعتماد على مصادر موثوقة عند البحث عن الأخبار.
كيف يمكننا التحقق من الأخبار والمحتوى المفبرك؟
للتصدي لظاهرة الأخبار والمحتوى المفبرك وحماية أنفسنا والمجتمع من تداعياتها، يلزمنا تبني نهج نقدي ومتحقق في تعاملنا مع المعلومات. تبدأ عملية التحقق بالتدقيق في مصدر الخبر: هل يأتي من جهة إخبارية موثوقة ومعروفة بسجلها في نقل الأخبار بدقة وحيادية، أم من صفحات غير معروفة تفتقر إلى المصداقية؟ هذه الخطوة أساسية لتحديد مدى صحة المعلومة.
كذلك، تعد أدوات البحث العكسي عن الصور ومقاطع الفيديو (مثل Google Images أو TinEye) تقنية فعالة لكشف تزييف المحتوى البصري. من خلال تحميل الصورة أو الفيديو في هذه الأدوات، يمكن معرفة أصلهما، متى نُشرا لأول مرة، وفي أي سياق. هذا ما كشف حقيقة العديد من مقاطع الفيديو المفبركة مثل تلك الخاصة بـ"جيسيكا رادكليف".
من المهم أيضاً التحقق من التواريخ والسياق؛ ينبغي التأكد مما إذا كانت التواريخ المذكورة في القصة تتطابق مع تاريخ نشر الصورة أو الفيديو أو وقوع الحدث الفعلي. كما يفضل تقييم السياق العام للخبر، وهل يبدو منطقياً ومتسقاً مع الأحداث الجارية أو المعلومات المعروفة؟ فغالباً ما تحتوي الأخبار المفبركة على تناقضات زمنية أو منطقية.
علاوة على ذلك، إذا كانت القصة مهمة وحقيقية، فمن المرجح أن تكون قد حظيت بتغطية من قبل مصادر إخبارية موثوقة ومتعددة. إذا لم يكن هناك سوى مصدر واحد غير معروف أو مشكوك فيه ينقل الخبر، فقد يكون ذلك مؤشراً قوياً على أن الخبر مفبرك أو غير دقيق.
من الجدير بنا الانتباه جيداً للتفاصيل غير الطبيعية عند فحص الصور أو الفيديوهات، حيث قد تظهر علامات على التلاعب في شكل إضاءة غير متسقة، أو ظلال غريبة، أو وجود أجسام تبدو غير متناسبة مع البيئة المحيطة بها. كما أن الأخطاء اللغوية الواضحة أو الصياغة غير الاحترافية في النصوص المرفقة قد تكون مؤشراً على أن المحتوى غير موثوق به.
وأخيراً، يتوجب الحذر من العناوين المثيرة والمبالغ فيها. غالباً ما تستخدم الأخبار المفبركة عناوين تصيغها بطريقة تثير المشاعر القوية مثل الخوف أو الغضب أو التعاطف المفرط، بهدف جذب الانتباه ودفع المستخدمين للمشاركة الفورية دون تفكير نقدي. إذا بدا العنوان مبالغاً فيه لدرجة لا تُصدق، فمن المحتمل أن تكون القصة نفسها كذلك.
إن التحقق من المعلومات لم يعد مجرد رفاهية، في الواقع، هي مسؤوليتنا جميعاً للحفاظ على بيئة رقمية أكثر موثوقية ووعياً. في عالم مليء بالمحتوى المصمم ليكون جذاباً ومؤثراً، يظل التفكير النقدي، والتحقق من الحقائق، والتشكيك في المثير، غير أنه يبقى درعنا الأقوى لمواجهة التضليل.