شحاتة زكريا يكتب : أزمة نهر النيل تتفاقم؟ هل تنسحب مصر رسميا من مفاوضات سد النهضة؟


منذ أكثر من عقد يظل سد النهضة الإثيوبي ملفا معقدا يضع مصر في قلب معادلة سياسية واقتصادية وأمنية شديدة الحساسية. فالنيل ليس مجرد نهر بل هو شريان حياة لبلد يعيش معظم سكانه على ضفتيه. ومع كل جولة تفاوضية، يطرح السؤال نفسه: هل اقتربت مصر من الانسحاب الرسمي من مسار المفاوضات، أم أنها لا تزال تراهن على الحلول الدبلوماسية؟
في ظاهر الأمر الأزمة تبدو وكأنها تراوح مكانها. إثيوبيا ماضية في سياساتها أحادية الجانب مستندة إلى حقها في التنمية ومصر تعلن باستمرار تمسكها بحقوقها التاريخية في مياه النيل. لكن قراءة متأنية تكشف أن الموقف المصري أكثر تعقيدًا ومرونة مما يظهر على السطح ، وأن الحديث عن الانسحاب من المفاوضات لا يعني بالضرورة انسداد الأفق، بل قد يكون ورقة ضغط محسوبة في لحظة سياسية دقيقة.
الرهان المصري الأساسي ظل دائما على التفاوض. القاهرة تعلم أن أي مواجهة عسكرية ليست خيارا مفضلا ليس فقط بسبب كلفتها بل لأنها ستفتح الباب أمام فوضى إقليمية لا أحد يعرف كيف يمكن أن تنتهي. ولذلك حافظت مصر على سياسة النفس الطويل فطرق أبواب الاتحاد الإفريقي ومجلس الأمن والقوى الكبرى لإبقاء الملف حاضرا على أجندة المجتمع الدولي. هذه السياسة جعلت العالم بأسره يعترف بأن حقوق مصر المائية ليست مجرد مطلب تفاوضي بل قضية وجودية ترتبط بالأمن الإنساني والغذائي لمئة مليون مواطن.
لكن هل يعني ذلك أن مصر في موقع ضعف؟ على العكس فالمتابع يدرك أن القاهرة استخدمت الأزمة لإعادة ترتيب أوراقها الداخلية والخارجية. داخليا استثمرت في مشروعات قومية ضخمة لإدارة المياه مثل محطات المعالجة والتحلية وتبطين الترع وتحديث شبكات الري ، وهي خطوات جعلت الدولة أكثر استعدادا لمواجهة أي طارئ. وخارجيا ، عززت حضورها الإقليمي عبر علاقات متوازنة مع القوى الكبرى وعمّقت شراكاتها مع الدول الإفريقية مؤكدة أن النيل ليس ساحة صراع بل مجال تعاون مشترك.
من هنا تأتي الإيجابية التي قد يغفل عنها كثيرون. صحيح أن إثيوبيا نفذت مراحل الملء دون اتفاق شامل لكن هذا لم يكن نهاية الطريق. على العكس فقد أتاح لمصر أن تثبت للعالم أنها الطرف المسؤول الذي لا يلجأ إلى التصعيد إلا بعد استنفاد كل الحلول السلمية. هذا الموقف أكسبها رصيدا سياسيا ومعنويا يعزز مكانتها كدولة إقليمية قادرة على التعامل مع الأزمات بأعصاب باردة وعقلانية مدروسة.
ثم إن التاريخ نفسه يقدم لمصر ما يشبه الضمانة. فالنيل عبر آلاف السنين كان دائمًا شريانا يتجاوز الحدود ، ولم يكن يوما سببا لقطع الصلات بين الشعوب. ورغم تعقيدات اللحظة الراهنة فإن المنطق يقول إن إثيوبيا لن تستطيع الاستفادة الكاملة من السد إذا اختارت سياسة العناد فالتنمية الحقيقية تقوم على الشراكة لا على الإقصاء. وهذا ما تراهن عليه القاهرة: أن تدرك أديس أبابا أن الاتفاق العادل ليس تنازلا بل استثمارا طويل الأمد في الاستقرار الإقليمي.
قد يسأل البعض: لماذا تصر مصر على البقاء في طاولة التفاوض رغم ما يبدو من مراوغات إثيوبية؟ والإجابة أن الانسحاب يعني ترك الساحة فارغة وهو ما لا يتسق مع عقل الدولة المصرية الحديثة. البقاء لا يعني القبول بل يعني الإصرار على أن تكون الكلمة الأخيرة مبنية على حوار حتى لو طال الزمن. وفي السياسة القدرة على الصبر أحيانًا تكون أقوى من أي قرار متعجل.
وربما الأهم أن الأزمة رغم قسوتها أطلقت نقاشا داخليا واسعا حول قيمة المياه وكيفية الحفاظ عليها. المواطن العادي بات يدرك اليوم أن قطرة الماء تساوي حياة، وأن ترشيد الاستهلاك لم يعد مجرد شعار بل ضرورة. هذه الثقافة الجديدة إذا ترسخت قد تتحول إلى أعظم مكاسب الأزمة على المدى الطويل.
إن مصر لا تواجه أزمة سد النهضة كملف معزول بل كجزء من رؤيتها الأشمل لأمنها القومي. لذلك فإن الخطاب الرسمي يظل متوازنا: متمسك بالحقوق لكنه لا يغلق باب الحلول. قد يبدو الطريق طويلا ، لكن التاريخ يعلمنا أن القضايا الكبرى لا تُحسم في يوم وليلة. ومصر بحكمتها التاريخية تعرف كيف تدير أزماتها بصبر دون أن تفقد بوصلتها.
في النهاية السؤال ليس: هل تنسحب مصر من المفاوضات؟ بل: كيف تحول هذه المفاوضات من معركة صفرية إلى فرصة لتكريس مبدأ "النيل للجميع"؟ الإجابة ليست سهلة لكنها ممكنة. وما دام النيل يجري من الجنوب إلى الشمال، ستظل القاهرة قادرة على أن تجعل من مياهه أداة حياة لا أداة صراع.