الأربعاء 17 سبتمبر 2025 11:27 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : الرشوة.. الطريق المظلم إلى خراب المجتمعات

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

الرشوة والفساد هما الخطر الأعظم الذي يهدد أي مجتمع، لأنه لا يقتصر على ضياع المال العام أو تعطيل المصالح فحسب، بل يمتد ليهدم القيم ويقتل الطموحات ويزرع الإحباط في النفوس. إنه مرض خفي، يبدأ صغيرًا ثم يتغلغل حتى يصير وباءً يعطل حركة التنمية ويشل عجلة الإصلاح.

لقد حرّم الإسلام الرشوة والفساد بجميع صورهما، ونهى عن الرشوة والغش والمحسوبية، وجعل الأمانة أساسًا لبقاء الأمم. قال النبي ﷺ: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما". فالوظيفة أمانة، والمال العام أمانة، وحقوق الناس أمانة، ومن يخون الأمانة فقد خان دينه ووطنه.

لكن للأسف، أصبحنا نرى في حياتنا اليومية ممارسات تتناقض مع ما أمر به الله ورسوله. فالمعاملة التي كان ينبغي أن تُنجز في دقائق، لا تُحرك إلا بعد أن يدفع المواطن "إكرامية" أو "رسومًا غير رسمية" يُطلقون عليها أسماء براقة تخفي حقيقتها. بعض الأوراق تُركن في الأدراج لأسابيع وشهور، ولا تُخرج إلا إذا قدم صاحب المصلحة ما يرضي الموظف. بعض المناقصات تُمنح لا للأكفأ، بل للأقرب والأكثر نفوذًا. وهكذا تضيع الحقوق وتُهدر الطاقات.

إن الفساد ليس مجرد رشوة مالية، بل هو أشكال متعددة: موظف يتعمد تعطيل مصالح الناس ليجبرهم على دفع مقابل، مدير يفضل الأقارب على الأكفاء،ومفتش يرهب موظفيه ويجبرهم على دفع الرشاوي ومسؤول يتساهل مع الأخطاء لأنه مستفيد منها، أو حتى عامل يهمل في عمله لأنه يظن أن راتبه لا يستحق الجهد. كلها صور لمرض واحد اسمه الفساد، وكلها تؤدي إلى نتيجة واحدة: إضعاف الوطن وضياع حقوق المواطن.

ومن أخطر ما في الفساد أنه يقتل الأمل في النفوس. المواطن البسيط حين يرى أن من يسير بالقانون لا يصل، وأن من يدفع أو يتملق هو الذي تُفتح أمامه الأبواب، يفقد ثقته في المؤسسات ويشعر أن العدل غائب. الشاب المتفوق حين يُقصى من وظيفة لصالح صاحب واسطة، تتولد داخله مرارة قد تتحول إلى كراهية للمجتمع. التاجر النزيه حين يخسر أمام منافس يستخدم طرقًا ملتوية، يضطر هو الآخر إلى تقليد الأساليب الفاسدة ليستمر. وهكذا تتسع دائرة الفساد وتنتشر عدواه.

ديننا وأعرافنا وتقاليدنا طالما حذرت من هذه الممارسات، لأنها لا تضر فردًا بعينه بل تضر الجميع. فالمال الذي يُؤخذ ظلمًا لا يبارك الله فيه، والوظيفة التي تُنال بالباطل لن تدوم، والكرسي الذي يُستغل لمصلحة شخصية سيسقط حتمًا.

أيها الفاسد والمرتشي ، اعلم علم اليقين أن ما تظنه ربحًا تأخذه من غيرك هو في الحقيقة خسارة عظيمة، لأنك تبيع آخرتك بعرض من الدنيا زائل، وتترك خلفك سمعة سوداء تلاحقك وتلاحق أبناءك. وأيها المرتشي، تذكر أن ما تأخذه من الناس ظلمًا هو نار تأكل قلبك وبيتك، ولن يبارك الله لك فيه.

إلى كل مسؤول، تذكر أن الأمانة التي بين يديك ستُسأل عنها أمام الله وأمام الناس والتاريخ. المنصب لا يدوم، والمال يذهب، لكن ما يبقى هو الذكر الحسن أو السيئ، والناس لا تنسى من ظلمها أو خان ثقتها.

وإلى كل مواطن شريف، لا تستسلم لليأس، فمواجهة الفساد ليست مستحيلة، لكنها تبدأ بخطوة: أن تقول "لا" للباطل، أن ترفض دفع الرشوة، أن تتمسك بحقك بالقانون، أن تُربي أبناءك على النزاهة والعدل، أن تُعلّم طلابك أن القيم لا تُشترى.

الفساد عدو التنمية، عدو الكرامة، عدو المستقبل. ولن تقوم أمة ما دام الفساد متجذرًا في أرضها. لكن الأمل باقٍ، لأن الشعوب التي آمنت بقيمها وواجهت أمراضها استطاعت أن تنهض من جديد.

فلنجعل من محاربة الفساد فريضة وواجبًا وطنيًا وأخلاقيًا، ولنتقِ الله جميعًا في أعمالنا ومواقعنا، ولنعلم أن صلاح الأوطان يبدأ من صلاح الضمائر. حينها فقط، سنعيد لأوطاننا رونقها، ولمجتمعاتنا طهارتها، ولأجيالنا القادمة حقها في أن تعيش في وطن عادل نظيف قوي.

حسين السمنودى الرشوة.. الطريق المظلم إلى خراب المجتمعات الجارديان المصرية